إذا كانت براءة نظام مبارك الفاسد المستبد التابع، قد وضعتنا بكل قوة أمام ساعة الحقيقة المرة التى كان غالبيتنا ينكرها، فيجب ان نصارح أنفسنا بشكل واضح ونعترف بأن النظام لم يسقط في يناير 2011 كما ظن كثيرون، وبقى على حاله بسياساته وتوجهاته وتحالفاته وشبكة مصالحه الداخلية والخارجية، وما تغير فقط الوجوه، قبل وبعد وصول الاخوان للحكم الذين ساهموا بكل قوة بتصدرهم للمشهد وتحركاتهم الغبية والانتهازية في إعطائه زخما جديدا، بحيث صار النظام مع الوقت أشد قمعا وبطشا بمصادرة المجال العام وتكميم الافواه وإلغاء الهامش الديمقراطي الشكلي حتى، والانتقال من الحقبة البوليسية لعسكرة المجتمع والمؤسسات، وليس ما يشاع أنه استكمال للنهج العسكري الممتد على نحو 60 عاما بخلط الاوراق بين تجربة ناصر وميراثه وثورة منحازة للجماهير وحقوقهم، وتجربة السادات المناقضة والمناهضة تماما لما قبلها والممثلة للثورة المضادة على ثورة يوليو والمستمرة حتى اللحظة . وعلينا ان نعترف بشجاعة بأنه لم تقم ثورة في مصر بمفهوم الثورات، وإنما هبة شعبية، أو انتفاضة هزت أركان النظام، لكنه تمكن سريعا بدعم أمريكي وصهيوني وخليجي، وبالتحالف مع رجال الاعمال والإخوان والنخبة السياسية والثقافية الانتهازية من استيعاب الزلزال الذي حدث في يناير 2011، ليعود أقوى من جديد تباعا، ويجدد دماءه وشبابه، مستهدفا البقاء لأطول فترة ممكنة واستعادة ما فقده أو كاد. ولعل أكبر خطيئة حدثت هو القبول طوعا أو بسذاجة بتسليم مبارك الحكم لجنرالاته، واعتبار أنهم شئ وهو شئ أخر، وأن ثمة مؤسسات يمكن الوثوق بها، وأنهم ليسوا جزء من كل، نهشه الفساد والإفساد، والعمل لمصالح خاصة، وليس لمصلحة الوطن والمواطن، بل والهتاف بغباء "الجيش والشعب ايد واحدة"، رغم انه منذ كامب ديفيد حدثت تغييرات هيكلية قادت واشنطن لتغيير العقيدة القتالية وخلق طبقة من العسكريين ترتبط مصالحهم مباشرة بصيغة الحكم الجديدة التى اشرفوا على وضعها مع رجلهم في الحكم السادات، والقائمة على التبعية الأمريكية وحماية أمن الصهاينة والرأسمالية المتوحشة الجشعة، والتلهي بمكاسب مالية، واحباط انجاز تنمية مستقلة أو استقلال القرار الوطني وتقزيم دور مصر وخروجها من دائرة التأثير والقيادة في محيطها العربي والأفريقي. والخطيئة الأخرى، هو التسليم بأن التغيير مسألة وقت ولا تستدعي العجلة، والاستماع لدعوى أن علينا أولا ان نتفرغ لبناء المؤسسات وخوض الانتخابات واختصار الديمقراطية في تلك العملية القابلة للتزييف المادي والمعنوي، وذلك قبل اتمام عملية التطهير لكل المؤسسات وهدمها جميعا والبناء على قواعد جديدة تنسجم مع النهج الثوري ووضع فلسفة حكم جديدة ممثلة في دستور وقوانين وآلية تنفيذية ومحاكم ثورية وعقاب صارم لكل من تورط بأى درجة في الفساد والاستبداد، مع مصادرة الأموال والممتلكات فورا. وكان لابد أن يسير بالتوزاي مع الاجراءات الثورية، خطوات محفزة ومكاسب تلمسها القواعد الجماهيرية على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، مثلما حدث في ثورة يوليو المجيدة، لتكون ظهيرا شعبيا يحمي الثورة من المؤامرات، ويقطع الطريق على التباكي على عصر مضى أو السأم من الحراك الثوري أو عدم تأييد اجتثاث النظام السابق من جذوره وملاحقة كل منتسبيه، خاصة أن الغالبية تميل للخط الاصلاحي وليس الراديكالي، وتسقط بحكم قلة الوعي والخبرة الثورية والبنية المحافظة وميراث التخلف والاستبداد في فخ الدعايات المضادة التى تستهدف الاجهاز على الثورة أو الافلات من عقابها، بألاعيب وحيل وخدع عديدة. وحدوث هذه الخطايا ينسف ادعاء البعض أنه كان ثمة قيادات ثورية استنادا إلى أسماء وكيانات صنعتها اجهزة الاستخبارات، سواء المصرية أو الأجنبية وأصحاب المصالح الذين يريدون توجيه الاحداث واختراق الانتفاضة الشعبية وحرف مسارها، سواء الأخوان أو الجنرالات أو بعض الأحزاب القديمة التى كانت تلعب لصالح جهاز أمن الدولة، فضلا عن دور الأمريكان غير الخفي ورجاله في مصر. فالحقيقة أن ما جعل الانتفاضة لا تكمل مسارها الطبيعي لتتحول لثورة شعبية تغيير مصير وتاريخ مصر، هو غياب القيادة ووحدة الأهداف ووجود تنظيم يتولى السلطة ويحقق مطالبها، وايضا افتقاد العقل السياسي المتحكم في توجيه المسار والاكتفاء بالرهان على المؤسسة العسكرية أو ظن البعض بغباء ان الجنرالات يفتقدون للخبرة السياسية ويمكن استيعابهم والسيطرة عليهم، ولم يروا ان ثمة أجهزة استخبارات اقليمية ودولية كانت تقود عملية وأد الثورة في مهدها من الأيام الأولى، ودعمت تلاعب الجنرالات بكل الأطراف، استغلالا لطمع الجميع في السلطة، ولتحقيق مصالح خاصة، والتصارع على كعكة الوطن، وليس الرغبة في تغيير الواقع المزري أو حتى اصلاحه. أخيرا، بدون اجراء هذه المراجعة القاسية، وطي صفحة الماضي وحديث"الثورة مستمرة"، بعد التعلم من دروس هذه التجربة، واستيعاب ماهية الثورة وآلياتها الجادة، ووضع برنامج واضح الأهداف للتغيير ولصورة مصر الجديدة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، لن نتمكن من هزيمة النظام الذي خسرنا جولة موجعة أمامه، لكن بتجاوز هذه الاخطاء والوعي الثوري الحقيقي وليس الشعاراتي، يمكن ان يكون الحراك الجديد منتجا، ويقود إن عاجلا أو آجلا لتوجيه ضربة قاصمة لنظام فاسد مستبد تابع لا يستحق سوى المشانق وإسقاطه نهائيا من ذاكرة المصريين. ------------- *كاتب صحفي Email:[email protected] المشهد .. لاسقف للحرية المشهد .. لاسقف للحرية