في الكثير من الأحيان وأنت تتابع ما يحدث فى مصر من أحداث خلال اليوم الواحد، وطبيعة الأخبار التي مرت خلاله لا تعرف هل يفترض ان تضحك ام تبكي.. فالأحداث لا تدعو لضحك حقيقي، ولكنها أيضاً عبثية بدرجة تجعل للبكاء طعما مختلفا، وتصل لخليط ما بينهما.. وهنا يمكن أن تتذكر محمد سعد في فيلمه عوكل وهو يمثل دور الجدة التي لا تعرف في فترة الاختفاء التى حدثت له ما يجب أن ترتديه من ألوان فتقول ساخرة وسط التجمع الباكي "البس اديداس؟!" ولكن عوكل لا يتوقف عند هذا الإسقاط فقط، فالأخبار التي حملت عناوين ضخمة عن الهجوم علي قهوة الملحدين تطرح الكثير من التساؤلات حول التحري والضبط وسمعة المقهي وغيرها من تفاصيل المنطق المرتبطة بالحدث بشكل مباشر. كما تطرح تساؤلات مهمة عن أسباب إلقاء الضوء علي تلك الأحداث بتلك الصورة والكثافة الواضحة والتي تبدو للبعض مفاجئة أحيانا وكأن المجتمع قد استيقظ فجأه علي واقع لا يعرفه أو علي مجتمع اخر يحاول البعض أحيانا ربطه بثورة يناير بوصفها -من وجهة نظرهم- قد أنتجت الشرور في واقع الفضيلة، وذلك في مغالطة واضحة للحقائق. تساؤلات مهمة عن الإعلام ودوره والأضواء وتركيزها، والأسباب وتفسيرها وهى الأمور التى تجعل المجتمع ما قبل الثورة وما بعدها وكأنه عوكل نفسه فى تابوته المتحرك أثناء نومه من مصر إلى تركيا، وكأننا قد استيقظنا بعد الثورة من واقع ملائكى لواقع شرير، وكأن الثورة قد أنتجت حالة الانتقال تلك التى لا يمكن التخلص منها بدون المحاربة المباشرة لها من جانب وللثورة نفسها من جانب آخر ، كما يشير هذا التناول بشكل مباشر وغير مباشر وبصورة مستمرة. تصور حدث مقهي الملحدين وفرحة البعض بالتعامل معه خاصة على المستوى الرسمى المرتبط بالحدث بشكل مباشر تبدو قريبة من عوكل الذي استيقظ ضائعا فتكون سعادته طبيعية وهو يعثر علي قهوة المصريين.. فرحة عوكل بصوت أم كلثوم يبدو مناسبا للحظة الدخول لمقهي الملحدين وقصص الإلحاد التي لا يمر علينا يوما تقريبا دون طرحها وكأن الإيمان والإلحاد أشياء يمكن ان تري أو يتم الحكم عليها بتلك السهولة والتبسيط لدرجة دخول البرامج الحوارية علي الخط بمقابلات مع ما تسميهم ملحدين دون طرح الأسئلة المنطقية عن التناول وسببه والهدف منه. وربما نبدأ سلسلة ملحد سابق وكنت ملحدا وشهادات من قلب عالم الإلحاد وغيرها من العناوين المعتادة فى الواقع المصرى فى ما يبدو مكسبا لحظيا لا يقيس خطورة الحدث ولا يقيم طريقة التناول ولا انعكاساتها. لا تختلف تغطية الإلحاد عن عمليات القبض علي الشواذ والتي تمثل حدثا اخر متكررا في الأخبار والبرامج. ومع تنوع أخبار القبض والضبط تأتي آليات التناول والتغطية الإعلامية مثيره للاهتمام.. ففي واقع يمكن أن تحجب فيه اسم شخص أو شركة أو مطعم متهما بالفساد أو تقديم أطعمة فاسدة أو غير صالحة للاستخدام للمواطنين، تجد أن عمليات الضبط تلك يمكن ان تتم علي الهواء أو في حضور الكاميرات التي تعلن وتحاكم اجتماعيا وأخلاقيا قبل القانون وقبل ان تسأل عن معني وقيمة ما تقوم به ولا أخلاقياته ولا حتى مكانته من الناحية المهنية، وبالطبع فى تجاوز واضح لحقوق المتهم. ثم تأتي أخبار التحقيقات والأدلة نفسها غير كافية لإثبات ما تعلنه من اتهامات ولكنها لا تتوقف وتستمر في مسلسل مكافحة الشواذ الذي يبدو للمتابع وكأنه حدث ضخم يصل إلي درجة الظاهرة المهددة لاستقرار المجتمع والتي تحتاج إلى ساعات من التفرغ له في المحروسة على طريقة مسلسلات الأجزاء. وسط تلك الأخبار تستمر اخبار التسريبات الجنسية والكشف عن "عنتيل" جديد في مكان ما، مع ما فيها من تعليقات وحوارات، وما يقدم -علي عكس المنطق أحيانا- بوصفه تحليلات علمية ونفسية واجتماعية للظاهرة. قضية أخري يساء تناولها، أو يحسن تناولها أن كان المطلوب هو إبعاد الناس عن القضايا الحقيقية التي يفترض ان تشغل اهتمامهم، وان كان المطلوب تكثيف صورة مجتمع الانهيار الأخلاقي المرتبط بالثورة حتي تزداد كراهية الثورة والتغيير. يضاف لهذا اخبار مستمرة عن إهانات للمواطن يتم التعامل معها أحيانا كثيرة بخفة واضحة وكأن إهانة المواطن أقل قيمة من الأخبار التي تترك لها أوقات التناول الممتدة، أو أنها حدث عادي تطبيقا لمقولة تدس السم فى العسل وهى تؤكد فى كل أزمة أن مصر دولة فى حاجة إلى شعب بطريقة تسمح بتجاهل أخطاء المسؤولين لأن المشكلة فى الشعب نفسه.. يهان شهيد في أحداث الهجوم علي كمين كرم القواديس بوصفه مجرد مجند، ويهان وطن من وزير صحة سابق يؤكد أن الأكل من الزبالة هو أكل أيضاً، ويهان البعض من محافظ اخر يصر علي استحضار أسلوب غير محترم لمشهد الخطاب مع الجماهير.. ولكن الحياة تستمر في المحروسة رغم الإهانة، وقد يكتفى المسؤول بالنفى فى برنامج أو حوار ما دون ان تكون هناك محاسبة حقيقية، كما أن المحاور قد لا يعترض أو يسجل مخالفته لأن ما يقال يبدو للبعض عاديا فالمواطن ليس دائما على حق والكرسى فقط يعتبر صادقا. يلقى القبض على من يتحاور باللغة الانجليزية فى المترو بعد شهادة راكب ضدهم تعيد إلى الذهن التحقيق مع مدير تحرير جريدة لوموند ديبلوماتيك الفرنسية، ولكن فى حين أنتهت قضية مدير التحرير مع ما أثارته من ردود فعل لا تختلف عن رواية جورج أورويل 1984 قد لا تنتهى حكاية من هم أقل شهرة بتلك السهولة. يتناول البعض تعليقات مشابهة عن خطورة الاستماع علنا لشريط غنائى من مطرب يعتبر فى تلك اللحظة من قبل البعض معاديا للنظام، ويضع البعض الآخر أغانيه بوصفها نوع من التعبير عن المعارضة والرفض فتتحول الكلمة واللغة والشخص إلى أهداف فى حملة الكراهية الدائرة بلا منطق. يصطدم قارب صيد بسفينة ضخمة فى خليج السويس ويموت عدد غير قليل ويغيب الاهتمام والتعامل السريع المفترض كما يؤكد مالك القارب وهو يعيد إلى الأذهان مقارنات متكررة عن التعامل مع الأجانب مقابل التعامل مع أبناء الوطن فى الكوارث لأن قيمة الانسان ليست واحدة. يصطدم ميكروباص في مطار القاهرة بطائرة أثناء وقوفها فى مهبط المطار فتزيد حدة السخرية التى يبدع فيها المصرى وكأنه يضحك من ألمه وعليه.. وسط هذا يأتى الخبر الوحيد المنطقى فى أحداث اليوم معلنا ترشح رجل الأعمال أحمد عز فى الانتخابات البرلمانية القادمة قبل أن ينفى البعض ويعلن محاميه عن حقه فى الترشح إن أراد تطبيقا لحقه الدستورى وبراءته القانونية، حدث قد يثير غضب البعض ممن يتساءل عن انجازات الثورة وما تغير فى المحروسة، ولكنه رغم هذا هو الحدث الأكثر منطقية فى كل ما يحيط بنا من عبث بعضه مستمر وبعضه مستحدث.، لأنه الأكثر اتساقا مع كل التطورات التى لحقت بالثورة المصرية. تسأل نفسك أين المنطق، وما الذي يجب أن تفعله ما بين البكاء والضحك الباكي غير أن تلبس أديداس، أو وجه ما بين الضحك والبكاء.. وربما تكرر مع محمود درويش: “ أَيها الحاضر! تحمَّلنا قليلاً، فلسنا سوى عابري سبيلٍ ثقلاءِ الظل!...” لدينا اضطرار لخلط الأبيض والأسود حتى يعود الوطن وطنا أكثر تسامحا وسلاما وعقلا. عبير ياسين عبير ياسين