تابعت مثل الكثيرين من الناس الحملة الغاضبة التي وُجِّهت إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وإلى حكومة كمال الجنزوري بسبب خضوع السلطات الحاكمة في مصر للضغوط التي مارستها الدوائر السياسية، والاقتصادية، والعسكرية، والإعلامية العليا في الولاياتالمتحدةالأمريكية، وهي الضغوط التي مُورِست للحيلولة دون مساءلة عدد من رعاياها بسبب نشاط غير قانوني كانوا يُمارسونه في مسائل تخص الشئون الداخلية لمصر. شملت هذه الضغوط التهديد بقطع المعونة التي تقدمها الحكومة الأمريكية للقوات المسلحة المصرية، كما شملت الإيحاء بأن تحويل مواطنين ومواطنات أمريكيين إلى المحاكمة الجنائية سيُقلِّل من فرص مصر في الحصول على قرض من منظمة النقد الدولية، وبالتالي فرص مجيء رءوس أموال استثمارية إلى السوق المصري يُمكن أن تُقدِّمها المصارف العالمية الكبرى. هذا في وقت أحوج ما يكون فيه الاقتصاد الوطني في حاجة إلى تدفق بعض من هذه الأموال إليه، إلى حين يستطيع أن يجتاز الأزمة الطاحنة التي يُعاني منها، ويشرع ربما في استعادة ولو قدر من الاستقرار يسمح له بالوقوف على قدميه. ترتب على هذا الخضوع أن سُمِح للرعايا الأمريكيين بمغادرة مصر على متن طائرة عسكرية أمريكية، ليفلتوا من المحاكمة على التهم الموجهة إليهم، وهي تهم تتعلق بممارسة أنشطة سياسية، واجتماعية تُموّلها هيئات مرتبطة بالحزبين الجمهوري والديموقراطي الحاكمين في أمريكا، وبخرقهم للقوانين المصرية التي تنظم نشاط الجمعيات في القطاع المدني. أنكرت جميع الهيئات مسئولياتها عن صدور القرار الذي سمح بالرعايا الأمريكيين لكي يفلتوا من المساءلة دون غيرهم من المتهمين. هذا مقابل عدة ملايين من الدولارات. كان قرارًا مهينًا، وجارحًا للكرامة الوطنية إلى أبعد الحدود لو تركنا جانبًا الاعتبارات الأخرى المتعلقة بنشاط جمعيات حقوق الإنسان والمعارك الدائرة بصددها منذ زمن. جاء هذا الإنكار رغم أنه لم يكن من الممكن أن يصدر هذا القرار إلا بناء على توجيه من السلطة العليا في البلاد، أي من المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وإلا، وهذا هو الأرجح، إن كان قد حاز الموافقة من الجناح الآخر في الحكم أي من "الإخوان المسلمين" الذين سعوا منذ زمن بعيد نحو ترتيب أمورهم مع الولاياتالمتحدةالأمريكية، لا سيما بعد أن أصبحوا يقومون بدور نافذ إلى حد كبير في تسيير شئون الدولة. شعرت مثل غيري بالضيق الشديد إزاء كل ما جرى، إزاء الهجوم العنتري الذي شنته السلطات المسئولة دفاعًا، كما يقولون دائمًا، عن مصالح الوطن وقوانينه، ثم التراجع المهين الذي انتهي إليه هذا الهجوم. لكن كما هو عادة المسنين أمثالي تقهقر ذهني إلى الماضي ليسرح في زاوية ربما تبدو لأول وهلة بعيدة من هذا الموضوع. مع ذلك هي في رأيي جوهر المشكلة التي تعرضنا لها. عاد ذهني إلى عقد الثمانينات من القرن الماضي، إلى عصر السادات، والانفتاح، وما فعله حكم مبارك إمعاناً في هذا الاتجاه. في هذه الفترة تم تغيير سياسة مصر في اتجاه أُطلق عليه وصف "التحرير"، في اتجاه تطبيق سياسة تخصيص الاقتصاد، وإلغاء القوانين والقواعد التي يُمكن أن تكون حجر عثرة في طريق هذا "التحرير" المزعوم الذي كان لصالح أقلية ضئيلة دون الأغلبية الساحقة من أفراد الشعب. حتى الطبقة الوسطى فُرِض عليها سقف لا تتعداه لتُعاني مع غيرها من طبقات الشعب من مشاكل البطالة وقدر متزايد من الإفقار. منذ ذلك الوقت خُلِقت الظروف التي تسمح بضم مصر إلى السوق العالمي لتُصبح جزءًا تابعًا لعولمة رأس المال، مما سمح للشركات العابرة للأوطان بالهجوم على سوقها الوطني، والسيطرة عليها، بكسر الحواجز التي كان يُمكن أن تحميها ولو في حدود. تُركت الرأسمالية الوطنية لتحتضر في مواجهة الرأسمالية العالمية الكبرى التي تملك إمكانيات مالية وتكنولوجية يصعب مقاومتها إن لم يتغير النظام القائم في البلاد على نحو جوهري. أصبح دور الاقتصاد المصري أن يُقيم المرافق التي تحتاج إليها الشركات الأجنبية العاملة أساسًا في مجال الخدمات، أن تستشري سياسة الاعتماد على الصناعات الصغيرة والمتوسطة التي تعمل لتلبية بعض احتياجات الكبار، أن تُستنزَف موارده لدفع فوائد القروض، أو نتيجة الميزان التجاري المختل. فطالما أننا نعتمد على استيراد السلع الأساسية والآلات، ووسائل المواصلات، وكل ما يحتاج في صناعته إلى قدر مرتفع نسبيًا من التكنولوجيا المكلفة، وعلى تصدير الحاصلات الزراعية، أو السلع التي لا تحتاج إلى تكنولوجيا عالية، تظل تُستنزف مواردنا بشكل تلقائي. ذلك لأننا ندفع غاليًا في الاستيراد، ونحصل على القليل مقابل ما نصدره إلى الخارج. أصبحنا حتى معتمدين على استيراد شيء أساسي مثل القمح الذي نصنع منه الخبز، وعلى الصين للحصول على سلع بسيطة كنا نقوم بإنتاجها. منذ تلك الأيام أُخضعت مصر لاستعمار جديد، شأنها شأن عدد كبير من البلاد التي كان يُطلق عليها وصف النامية، إلى أن ثبت أن حتى هذا التعبير لا ينطبق عليها، لأنها لا تنمو على الإطلاق. تحول الحكم في مصر إلى جهاز إداري، إلى وكيل يقوم بتسيير الأمور التي تلبي احتياجات ومصالح رأس المال العالمي العابر للأوطان، المتمركز في الولاياتالمتحدةالأمريكية، وبلاد أخرى مثل ألمانيا وإنجلترا وفرنسا واليابان. غدت مسئولية السلطة في مصر أن تقوم بدور المدير الكفء أو الأقل كفاءة للمصالح الكبرى في العالم وأساساً لمصالح الولاياتالمتحدةالأمريكية وهذا حسب قدرة القائمين عليها، غدا دورها أساساً إقرار السياسات التي تخدم هذه المصالح، وهي مصالح تنسق بينها، وتُقنن لها منظمات مثل البنك الدولي للتعمير والإنشاء، أو صندوق النقد الدولي، أو منظمة التجارة العالمية. على الحكم في مصر أن يسمع الكلام مقابل حصة في المكاسب. كان هذا هو الوضع في عهد مبارك، وسيظل هكذا تحت حكم المجلس الأعلى للقوات المسلحة و"الإخوان المسلمين"؛ لأنه في ظل هذا الحكم لن يحدث تغيير جوهري في النظام. عندما يُطلب من حكامنا أن يتصرفوا وكأنهم "أحرار"، يُطلب منهم مالا يستطيعون إتيانه. لذلك آن الأوان لكي نذهب إلى جذور المشاكل. المعارك الجزئية يُمكن أن يكون لها معنى، ومدلول إن خضناها في سياق خط عام. وبعد 25 يناير 2011 ألم يأتِ الأوان لكي نبحث، وندرس، ونعمل سويًا لكي تُصبح دولتنا ملك الشعب؟ عندئذ ستصبح مصر دولة مستقلة لها سيادة، ولها إرادة يُعمَل حسابها.