لِى مَعَ الأَوطَانِ أَسرَارٌ خَبِيئَةْ ذِكرَيَاتٌ، أُمنِياتٌ، أُمسِياتُ الدِّفءِ فِى المُدُنِ الدَفِيئَةْ لِى هُنالِكَ أَلفُ حُلمٍ، كُلُّ يَومٍ فِيهِ كَنزُ، فِيهِ بَعضٌ مِن تَراتِيلِ المَشِيئةْ لِى مَعَ الأَوطَانِ أَسرَارٌ خَبِيئَةْ لِلشَّبَابِ الغَضِّ سِرٌّ، وَالصِّبَا كَالطَّيرِ حُرٌّ، وَالحَكَايَا فِى الحَنَايَا، وَالطُّفُولاتُ البَرِيئَةْ لِى مَعَ الأَوطَانِ أَسرَارٌ خَبِيئَةْ لِى هُنالِكَ نَبضُ قَلبِى، صَوتُ تَسبيحِى لِرَبِّى تَمتَمَاتِى، أُغنِياتِى، وَالتَّبَارِيحُ الوَضِيئَةْ لِى مَعَ الأَوطَانِ أَسْرَارٌ خَبِيئَةْ صَوتُ أُمِّى ، حِينَ يَكسُو وَجْهَ يَومِى، بِالتَّحَايَا، وَالبشَارَاتِ الهَنِيئَةْ لِى مَعَ الأَوطَانِ أَسرَارٌ خَبِيئَةْ أعرف أنه لا صوت يعلو الآن على صوت الانتخابات الرئاسية من جديد، وأعرف أن مصر فى لحظتها هذه تشبه أم العروس فى الأمثال الشعبية، وأرى كيف أن الحناجر كلها مشدودة وكأنها تقول كلاماً حقيقياً، وكيف أن المعارك الجانبية مشتعلة وكأنها المعركة الرئيسة، وأسمع كيف أن ضجيج اللحظة يصم الآذان دون أن يعد بطحن من أى نوع. أعرف هذا كله وأعلمه وأسمعه وأراه، ولكننى سأسمح لنفسى أنا بأن أفر من هذه الضجة وأن أهرب من هذا الصخب إلى ذلك الغائب عن المشهد كله رغم أنه الأولى بالحضور، نعم سوف أفر من الضجيج باسم الوطن إلى الوطن ذاته. سوف ألقى بذاتى فى حضن الوطن الذى يتحدث باسمه الجميع وينسونه فى اللحظة ذاتها، سأتسلل وحدى إلى هناك: حيث طفولتى المشاكسة فى كُتاب شيخى (الشيخ عبد الرؤوف على الدين)، حين كان براح القلب أرحب من براح الكون، وحين كانت اليد الغضة الصغيرة قادرة على أن تمسك بالكون كله بين الأصابع، وحيث دفء أبوة أبى الذى لم أنعم به إلا لحظات أو ما يشبه اللحظات، وسأتذكر عشقه الدافىء لهذا المعنى الذى كان يبدو لى غامضا وقتها والذى كان يسميه "البلد". سأوغل أكثر فى التذكر لأذكر كيف أبى أن يصبح رجلاً من رجال الاتحاد الاشتراكى وهو المتيم بوطنية ناصر الموقن بزعامته، وكيف كان يضع جهاز الراديو الذى يمتلكه فى المقهى ويضع أمامه مكبرات الصوت لتتوالى بيانات الخديعة الأولى عام سبعة وستين، وكيف كانت انكسارته الأولى حين تبدت الحقيقة فى نظرة ناصر المستكينة التى تخلت عن زهوها وإن لم تتخل عن صمودها ورجولتها، وهو يعلن بيان التنحى، ثم كيف كانت انكسارته الثانية وهو يعود إلى البيت ليقيم مأتماً عائلياً فى الثلاثين من سبتمبر من عام ألف وتسعمائة وسبعين. لا أذكر كيف مر العامان التاليان ما بين سبتمبر عام سبعين ويوليو عام اثنين وسبعين حين مضى هو، تاركاً وراءه فى قلوبنا حضوره الذى لا يسعه غياب، وفى بيتنا بضع صوراً كلها التقطت فى الفترة التى كان مجنداً فيها بعدة أشرطة على ذراعه، وهو يقضى زهرة عمره القصير ما بين غزة وسيناء. لم تكن أمى بحاجة لمن ينبهها بعد ذلك إلى أنها أصبحت هى "الوطن" فى أعين أطفالها الستة وفى أرواحهم أيضاً، ولم نكن نحن بحاجة إلى نتساءل عن معنى هذه الكلمة التى يحدثنا عنها صفصاف النيل، وقطن الحقول، ونشيد المدرسة، وهتاف صوتى الغض الواثق الملىء بالعنفوان وأنا واقف وسط طابور المدرسة أهتف مرتعشاً لفرط الحماس، مصدقاً كل كلمة أصدح بها: "يا صغار اليوم.. يا شباب الغد... هذا علمكم... يرفرف فى سمائكم ... يناشدكم البطولة والفداء... فلبوا نداءه... واهتفوا بحياة مصر... وحيوا العلم: تحيا جمهورية مصر العربية، تحيا جمهورية مصر العربية، تحيا جمهورية مصر العربية. كان على إذن أن أنتظر عاماً آخر لأبلغ الثامنة من عمرى، ولأسمع صوتاً خفياً فى وجدانى ينادى أبى : لماذا لم تنتظر عاماً واحداً وأربعة أشهر فقط لترى "البلد" وهو يسترد عافيته و"يفرد طوله"؟ فلربما استطعت أنت أيضا ساعتها أن تستعيد ذلك الضوء الباهر فى عينيك وأن تسترد عافيتك وعنفوانك الحبيب!!