وضعتها الظروف في طريقي في يوم حزين جدا علي نفسي.. وفي مكان لا يسمع فيه سوي البكاء والدعاء وتلاوة القرآن.. فما أن انتهيت من قراءة الفاتحة علي روح صديق العمر "سمير" والدعاء له بالتثبيت عند السؤال تناهي إلي مسامعي صوت يناجي: "اللهم إن لم يكن بك غضب عليَّ فلا أبالي".. التفت ناحية الصوت فوجدت سيدة رقيقة الملامح تحمل صغيرا علي ذراعها وتعجبت من أمرها كيف لا ترهبها وحشة المقابر وسكونها المخيف بعد انصراف جموع المشيعين من المكان؟! لحظات من الدهشة قطعتها بعرض ما لديها قالت: "معايا بسكويت ومناديل.. تشتري" قلت: هل ضاقت بك الدنيا ولم تجدي سوي المقابر لتسعي علي رزقك فيها.. ألا تخشين علي نفسك وطفلك؟!!.. أجابت: اعتدت ذلك كلما رأيت جنازة وراءها مئات المشيعين فأسرع بترك مكاني في الموقف و أسعي نحوهم لألتقط رزقي وأعود إلي بيت ابنة خالتي مبكرا منعا للقال والقيل!! عدت لأسألها: أي قال.. وأي قيل وهيئتك وملامحك تشير إلي أنك "بنت ناس"؟!.. هنا لم تتمالك دموعها وأخذت تروي لي حكايتها: كنت البنت المدللة وسط أربعة أشقاء ذكور.. وكان أبواي يغمرانني بكل الحب والحنان وكانت علاقتي بزوجات اخوتي واللائي يقمن معنا في بيت العيلة علي ما يرام وكم جمعتني بهن كثير من المواقف الجميلة فلم أنس فرحتهن بي حين أنهيت دراستي الجامعية ما شجعني علي مواصلة الطريق بالحصول علي درجة الماجستير في القانون.. وفي أعقاب ذلك جاء من يطلبني من أبي لكن والدي اشترط عليه لإتمام الزواج أن يقيم في الشقة التي خصصها لي بمنزل العائلة حيث نقطن بإحدي قري المنصورة ونزل الشاب وهو من نفس البلدة علي رغبة أبي لتكتمل فرحة الأسرة بزواجنا.. لكن.. لكن لم تمض شهور معدودة حتي تحول البيت السعيد إلي جحيم حين حاولت زوجات أخوتي الوقيعة بين زوجي وأبي والادعاء زورا أنه يحرضني علي مقاضاته أمام المحاكم لأحصل علي حقي في ماله قبل وفاته!! هنا طلب زوجي مواجهتهن أمام الجميع ليتضح كذب ادعائهن وتظهر براءته..!! واصلت قائلة: بعد تلك المواجهة ظننا أن الهدوء سيعود للمنزل من جديد لكن سرعان ما هبت العاصفة لمجرد أنني وزوجي أسمينا طفلنا الوليد باسم أبي.. وفي هذه المرة تدخل والدي وكان في مرضه الأخير واستدعي أخي الكبير وأوصاه بي.. ولم تمض فترة طويلة حتي توفي أبي ومن بعده أمي فما كان من أخي الكبير إلا أن طلب مني إخلاء الشقة حيث ينتوي تجديد البيت كله ليجعله "جنة" وبعد أيام قليلة ظهرت الحقيقة المرة فقد زُفت ابنة شقيقي في شقتي ليسقط زوجي صريع المرض وأسقط أنا في دوامة العذاب حين أقمت مع عائلة زوجي واضطررت للخروج للعمل للانفاق علي علاج ابنهم واحتياجات صغيري.. فلم أمتنع وساعدني بعض الأقارب علي إقامة فاترينة أعلي الكوبري وما أن رآني اخوتي أقف فيها حتي أوسعوني ضربا وألقوا بالفاترينة في الترعة!! عندئذ أشار عليًّ حماي بالنزول للعمل في المدينة فلم أجد أفضل من موقف الميكروباص لأبيع فيه وسط حركة الناس والركاب التي لا تهدأ لكن لم يتركني أصحاب النفوس المريضة في حالي فأخذ يلاحقني أحدهم وحين ردعته تربص بي.. لذا حينما رأيتها بعد طول غياب لها عن القرية دعتني لزيارتها بشقتها الكائنة بأحد الأبراج السكنية وليتني ما لبيت الدعوة فقد اكتشفت انها ممن باعوا أنفسهم للشيطان مما جعلني أفر منها فرار المجذوم في الوقت الذي أخذ هذا المتربص يسئ إلي سمعتي بعد أن علمته الأدب وبدلا من أن يتبين حماي الحقيقة أجبر زوجي علي تطليقي وللأسف وافقه متناسيا إلي أي بيت أنتسب.. و لكن الله لم يتركني وبعث بالشهود الذين أثبتوا لكل أهالي القرية أن ما أشاعه عني هذا الخسيس محض خيال مريض لذا حاول الجميع التكفير عن الجرم الكبير الذي ارتكبوه في حقي حين أعطوا أذنهم لذاك المخبول فتدخلوا لدي شقيقي الكبير واستعادوا منه شقتي ومع ذلك لن أعود إليها فقد آثرت الإقامة عند ابنة خالتي بالمدينة ورفضت العودة ل "أبو إبني" فكيف أغفر له ما فعله معي وأنا الذي ضحيت بالكثير من أجله خبرني.. كيف؟! وفي الحقيقة انتهي كلامها معي عند هذا السؤال كيف أعود؟.. فمن يجيبها عسي أن تلملم جراحها وتعفو عما سلف!! الكابتن رضا حجازي المنصورة * المحررة: حينما تتوالي الطعنات لا تستطيع أن تطلب من الجريح أن ينهض سريعا بل ستمنحه من الوقت ما يستعيد معه عافيته وهذه السيدة بحسب روايتها لك توالت عليها الطعنات من الأخ والزوج.. والقريب والبعيد ولم يشفع لها أنها من بيت ريفي أصيل كريم ان تطالها الشائعات وكله بسبب الطمع.. نراه حين حاولت زوجات الأشقاء الوقيعة بين زوجها السابق وأبيها وحين قام الشقيق الأكبر بمخالفة وصية أبي والاستيلاء علي حق شقيقته.. نراه في أصحاب النفوس المشوهة الذين أرادوا اصطيادها تحت وطأة الحاجة والعوز لكنها استطاعت مثل أي امرأة حرة شريفة أن تفر منهم فرار المجذوم علي حد وصفها. وبعد.. من حق المدللة أن تمنح نفسها من الوقت ما يعينها علي لملمة الجراح العديدة التي لم تترك موضعا في حياتها إلا وأصابته.. عليها أن تأخذ فرصتها كاملة في إعادة تقييم تجربتها في الزواج.. وعلاقتها مع الأهل.. وعلاقتها بالمجتمع لتحدد أين تقف؟ وإلي أين تسير قبل أن نقول لها سامحي وعفا الله عما سلف؟!