وسط دخان، وضباب المعارك المشتعلة حول توزيع المناصب وصياغة الدستور وسلطات الحكم، حول مرشحي الرئاسة، وبدعة اسمها التوافق، حول النفوذ والمواقع، وتحركات أنصار النظام السابق والحفاظ على جوهره في النظام الحالي، حول أجهزة وزارة الداخلية وإخضاعها للإسلام السياسي، حول المادة 28 المدسوسة في الإعلان الدستوري، والتي لا تُجيز الطعن في نتائج انتخابات الرئاسة، حول "زياد العليمي" ومحاولات إخضاعه. وسط صخب التليفزيون بنجومه وقنواته، وسط الإضرابات والاعتصامات والجرائم، ومحاولات الاغتيال، وسط الأصوات الزاعقة في استجوابات البرلماني، وسط كل هذا تضيع الكلمات النادرة التي تدعو إلى وقفة نستطيع أثناءها أن نبحث، وربما أن نعرف إلى أين تتجه بلادنا، إلى أين ستقودنا الأحزاب، والحركات والجماعات المتصارعة في أجهزة السلطة، وفي الميادين وشوارع القطر. وسط الفوضى الضاربة أطنابها يبدو وكأنه لا يُوجد حزب، أو جماعة، أو ائتلاف، أو تيار سياسي قادر على أن يُوضح لنا كيف يُمكن أن نبدأ في الخروج من أزمة المجتمع الطاحنة. الذين يتربعون على مقاعد الحكم، سواء أكان المجلس الأعلى للقوات المسلحة، أو حزب "العدالة والحرية" التابع لحركة "الإخوان المسلمين"، أو حزب "النور" السلفي مشغولين بتثبيت أقدامهم في السلطة، بتوسيع نطاق السيطرة التي منحها لهم الشعب في الانتخابات، مشغولين بالحكومة القادمة، والرئاسة القادمة، بأجهزة الإعلام وأحاديثهم المُذاعة فيها. لا وقت لديهم لغير ذلك رغم كلامهم المستمر عن الشعب الذي يستقون منه شرعية وجودهم، رغم معاناة الجماهير التي نشهد ظواهرها كلما خرجنا من أبواب بيوتنا. لا نعلم إن كان سيتغير شيء في هذا الوضع عندما يطمئنون إلى رسوخ أقدامهم في حكم بلادنا، لذلك لابد أن نتساءل ماذا تفعل القوى "الثورية" والديموقراطية التي انطلقت من عقالها يوم 25 يناير سنة 2011، وقامت بحركة نالت تأييداً واسعاً من جماهير الشعب ضد الطغيان الذي عاشت في ظله طويلاً. لابد أن نتساءل ماذا تفعل القوى التي مازالت تخوض المعارك من أجل الغد الذي تراءى لها في خيالها فأطاحت بحكم مبارك وبطانته وفرضت تغيرات في النظام وحققت انتصارات عندما توحدت صفوفها. لابد أن نتساءل ماذا تفعل هذه القوى إزاء الأزمة الطاحنة التي تمر بها بلادنا. بعد تجارب السنة الماضية أصبح من الضروري أن تُحافظ القوى الثورية والديموقراطية على كيانها، وعلى اندفاعها إذا أرادت أن تُواصل المسيرة التي بدأتها. لابد أن تلتئم صفوفها، فالضعف الأساسي الذي تُعاني منه هو الانقسام، هو تفرق قدراتها. لابد أن تتعاون وتتآلف، وتنسق جهودها حتى تستطيع أن تُواصل معركة الإصلاح الديموقراطي. لابد أن تتجمع حتى تقوم بدراسة الواقع الاقتصادي، والاجتماعي والثقافي، وتُحدد السياسات التي ينبغي الشروع في تطبيقها للخروج من الأوضاع المتردية السائدة في بلادنا، من الأزمة الاقتصادية التي تجعلها سائرة على شفا الانهيار. لابد أن تنسق الجهود وتوحدها حتى تتم الاستفادة من كل الخبرات، والقدرات المبعثرة، لكي تخوض المعارك المختلفة، لكي تُحدد السياسات التي يُمكن اتباعها، وهذا رغم الاختلافات القائمة في صفوفها، فإذا لم يحدث هذا لن ينالها سوى الفشل. ستتبدد قواها وتتفرق في مسالك لا نعرف إلى أين ستقودها. إن مهمة التحول الديموقراطي شاقة تحتاج إلى وقت وجهد وصبر، فالقوى التي تقف في وجه الإصلاح ليست هينة. إنها تتمثل في النظام الذي ورثناه من عهد مبارك، في المجلس الأعلى للقوات المسلحة التي تم إعادة تشكيلها، وأُغدقت عليها الامتيازات حتى تتحول إلى مؤسسة علاقتها بالشعب، وتعاطفها معه أضعف مما كانت في أي وقت سابق. إنها تتمثل في أحزاب الإسلام السياسي التي تُشكل عقبة أخرى في طريق التقدم الديموقراطي، فرغم التطورات التي حدثت في ممارساتها للسياسة لازالت مرتبطة بجوهر أفكار واتجاهات تاريخها السابق. قد تقودها الثقافة الإسلامية إلى مواقف فكرية مناهضة للغرب لكن هذا لا يُخفي الارتباطات القوية القائمة بينها وبين الرأسمالية العالمية، بينها وبين البنوك وتجارة الذهب والعملات، ورءوس الأموال الخليجية لا يخفي استعدادها للتعاون مع الغرب الرأسمالي إلى أبعد الحدود. ما ينطبق على الإسلام السياسي ينطبق أيضاً على المسيحية السياسية حتى وإن لم يكن لها حزب مُعلن، وحتى إن كان تأثيرها في مصر أضعف. كذلك تتجسد القوى المعارضة للتحول الديموقراطي في مصر بشكل واضح في قوى دولية ذات شأن، في الولاياتالمتحدة وإنجلترا وفرنسا وألمانيا التي تتعاون جميعاً مع دولة إسرائيل ومع دول عربية تخشى من تحول ديموقراطي يُهدد مصالحها. المهمة التي تقع على عاتق القوى الديموقراطية إذن صعبة تحتاج إلى فكر، إلى إعمال العقل، إلى دراسة وفهم، إلى رسم سياسات واضحة تنتزعنا تدريجياً من الحصار الذي نُعاني منه، تحتاج إلى مواجهة القوى الداخلية التي لن تجد غضاضة في الاتفاق مع الولاياتالمتحدة ودول الغرب لتظل مصر عائمة بالكاد على السطح دون أن تغرق في العمق لتظل قادرة فقط على القيام بالدور المنوط إليها من أسياد الأرض، ولتحيا ضعيفة مقهورة، تحيا على الفتات المتروك لها من أغنياء العالم وحلفائهم في بلادنا. إن تعاضد هذه القوى وتضامنها في مواجهة المعارك التي تنتظرها تُشكل حماية لصفوفها، وتسمح بالحيلولة دون استشراء اليأس ودون تفرق عناصرها أمام المصاعب التي تسد الطريق أمامها. هذا التفرق الذي سيقود حتماً إلى أن تبحث عناصرها النشطة عن مسالك أخرى في حياتها. إن تعاون القوى الديموقراطية وائتلافها من شأنه أن يُلهم جماهير الشعب ويُبقي روح النضال والأمل في الغد حية فيها، أن يكون خميرة للزحف نحو مستقبل الحرية والكرامة والعدل. إن تعاون هذه القوى الديموقراطية ليبرالية كانت، أو يسارية، أو إسلامية شبابية، أو مسيحية ضرورة لكي نعرف إلى أين يُمكن أن تسير البلاد حتى تخرج من الأزمة التي مازالت غارقة فيها بعمق.