أعوام ممتعة من العمل الصحفي حمل لي بريده العطر آلاف الرسائل والتحايا لطالما أثلجت صدري وألهثتني شكرا لله على المودة والقربى مع القراء ، لكن لا أخفي عليكم أروع تحية تلك التي جاءتني من " وليد أبو حامد " وآه حين تعرفون من هو .. هولحن مصري بديع وأصيل عزفته يد أب مصري فلاح أجير بسيط تستحق التقبيل ، يد لم تمتد لقلم لكنها احتضنت فأسا تزرع وتحصد وتمسح حبات عرق لؤلؤية . كتب لي يقول " قرأت مقالك – إلى صديقي المتفائل وسط مواكب المحبطين – والحقيقة لن أضع على رأسك تاجا مرصعا بالاطراءات وكلمات الثناء فأسلوبي منتقص للبناء اللغوي والفكري (!!) أنا يا سيدتي عاشق للوطن وللحياة ، والدي فلاح أجير رزق بأبنائه الثلاث وأنا أكبرهم فأضاف لجسمه النحيل ساعات عمل شاقة في مصنع نسيج ، وكنا متفوقين دراسيا ، ولأنني أكبر الأبناء فقد وجهت بأول اختبارعلمني أن سعادتي تكمن في أن أفعل مايجب علىّ فعله ، فأنهيت المرحلة الإعدادية وأنا أرمق أخي الذي يصغرني فإذا به يتوق مثلي للجامعة فقررت أن أقتل حلمي والتحقت فعلا بالتعليم الصناعي المتوسط وخرجت مع إخواني نعمل في الحقل ومع طائفة المعمار وتحملت أنا العبء الأكبر حتى تخرج الاثنان من الجامعة وأصبح أحدهما طبيبا فرح به والدنا كثيرا ، عملت فلاحا وبناء وعامل تراحيل أحمل الطوب والرمل وطفت البلاد شرقها وغربها أبني صحراءه فتتحول إلى مدن أنيقة لا أستطيع أن أسكن بها ، وكنت أردد أنه على قدر القسوة والمعاناة على قدر رضانا وحبنا للحياة ولقصتنا التي لابد أن نسطرها بإيدينا وأن القدر لايظلمنا إن اجتهدنا وسعينا ولذلك تحاكوا في قريتنا عن الصبية الثلاث الذين قهروا ظروفهم وانتصروا عليها ... ثم انتبهت لحالي فإذا بي في الثانية والثلاثين من العمر ولم أتزوج بعد وعلى قدر ظروفي أتممت بيتي الريفي المتواضع وتزوجت بمن تشبهني في ظروفها واكرمني الله بزوجة محبة طيبة وطفلة جميلة ، قررت بعدها أن أزيد ساعات عملي فلا وقت للأحلام التي ليس لها أساس واقعي لأن سوق العمل لايرحب بالنفوس المتألمة اوالمثالية ولابد من العمل ولنكف عن الشكوى موقنين أن الشقاء هو القفز فوق مستوى قدراتنا متجاهلين أن التدرج سنة كونية وقانون إلهي وأن الموت ليس مدعاة لليأس بل دعوة لحب الحياة ، ورغم الوهن الذي أصاب كتفي وجسدي النحيل إلا أن حبي للحياة وتفاؤلي يزيدني إصرارا وأعلم أن كلنا نتألم ولكن مهما قست ظروفنا ومهما أهملنا الوطن وقسى علينا فأقسم بالله أني أعشقه ويكفي أنه المسرح الذي يسمح لي أن أحيا عليه مسطرا حكايتي دون مقابل (!!) أعود لمقالك يا سيدتي وأرى أن المثقفين في سبات عميق يخافون الاصطدام بالسلطة وبعضهم قلمه شكسبيري والآخرمأجور وأما السلوكيات السلبية الموجودة في مجتمعنا فناتجة عن فقد الثقة في النخبة والقادة وتهاوي صورهم المثالية فإذا بهم محتالون اومنافقون او لصوص ، وإذا أردنا بالوطن خيرا فلنضع الناس في شيء حقيقي صادق يلتفون حوله ، وقتها سنجد شعبا لم تر الأرض مثله ، فراعين جدد يكملون مسيرة الأمجاد وإلا سيخرج شعب يأجوج ومأجوج يقتلع الأخضر واليابس فاتقوا غضب الجياع فالجائع لا يحترم قيمة ، وأخيرا أعشق حياتي ومحمولي القديم وبيتي الريفي المرشوش ترابه بالماء وشاي الراكية وأقول لكل شاب لاتستسلم وابدأ ولاتخش السقوط فسقوط المطر يعني البداية ولتكتب قصتك التي خلقت من أجلها متسلحا بإيمانك بالله ... والآن بعد أن أنهي رسالتي أذهب ككل يوم مبكرا إلى سوق العمل أجلس على رصيف الحياة منتظرا الرزق ، منتظرا من يناديني لأحمل له أكياس الرمل أو مستلزمات المعمار وأقسم بالله أني سعيد لأن كل يوم يحمل لي بداية جديدة ..... وأخيرا يا سيدتي الصنايعية هم الذين يقرؤون ولكنكم لا تشعرون ويكفيهم أنهم لايحملون شهادة " أمية جامعية " وبلسان حالهم أقول لك تحية لمقالاتك " توشكري يا أستاذة يا بنت مصر يا مجدع " . بعد أن فرغت من قراءة رسالة صديقي العامل الشاب المثقف الواعي والطموح أدركت غفلتي حين أوجه كلامي لمن اعتقدت أنهم بيدهم الأمر وأدركت فعلا أنهم لا يقرؤون ، بل ويشرفني أن أوجه لأمثال هذا الشاب العاشق للوطن وللحياة التي يقرأها كرواية جميلة حتى نهايتها ولا يتوقف عند سطرها الحزين مؤمنا أن القادم دائما هو الأفضل .. ولصديقي الشاب أقول ليتك تعلم كم أحترمك وكم أعتز بتحية الصنايعية فتوجت بها مقالي ، أيها العامل المرتحل وراء الأمل قلبي يرحل معك ومع أمثالك داعيا لكم ياخير بذرة زرعت في أرض الوطن بيد أبيك الشريفة ... والله الله يامصر على شبابك وعلى فلاحيك وبنائيك .