اليوم يوم عرفة أفضل وأشرف أيام العام ثواباً ومغفرة .. إنه يوم المغفرة واجتماع الشمل.. وهو الذي يباهي فيه ربنا سبحانه ملائكته "انظروا يا ملائكتي هؤلاء عبادي جاءوني شعثاً غبرا ًيرجون رحمتي ويخافون عذابي.. أشهدكم يا ملائكتي إني قد غفرت لهم". في مثل هذا اليوم وقف الرسول صلى الله عليه وسلم يخطب في أصحابه الذين اجتمعوا له.. حتى الذين لم يروه من قبل جاءوا في هذا اليوم ليسعدوا برؤيته وسماعه. نظر الرسول على يمينه ويساره وأمامه وخلفه فرأى الجموع مد البصر. فقد اجتمعت له الآلاف المؤلفة.. اجتمعوا حوله اليوم محبين بعد أن بارزوه بالعداوة والشقاق سنوات طويلة.. اجتمعوا إليه خاشعين منصتين بعد أن كانوا له قبل ذلك محاربين ومتآمرين. إنهم غرس الدعوة الذي غرسه.. إنهم نتاج حلمه وصبره وعفوه وكرمه.. إنهم نتاج محبته للناس ودعوته لهم لا عليهم.. إنه يبادلهم حباً بحب .. ولكن الرسول في بداية الحديث يصدمهم بقوله:"أيها الناس اسمعوا قولي لعلى لا ألقاكم بعد عامي هذا" ياااه .. إنها إذا كلمات مودع.. ووصايا نبي يكاد يفارق أحبابه بعد أن أنست به الدنيا وسعدت لسنوات.. كيف تلمح يا سيدي بالرحيل ونحن لم نشبع منك ..ولم نتضلع من هديك وخيرك. وإذا بالبكاء يشتد.. وجرير يستنصت الناس.. فأنصت الحجر والرمل والقفر والدنيا كلها لكلمات نبي عظيم يودع أصحابه والدنيا كلها. وها هو يستودعهم خلاصة دعوته وزبدة رسالته.. وفى بدايتها يستثير فضولهم واهتمامهم بقوله "أي يوم هذا"؟ فسكتوا وكأنه سيسميه بغير اسمه .. فقال: أليس يوم الحج الأكبر.. قالوا: بلى.. وبنفس الطريقة سأل عن أي شهر هذا؟.. وأي بلد هذا؟.. وسكتوا وأجاب: أليس الشهر الحرام والبلد الحرام ثم استطرد في براعة وحسن استهلال الداعية العظيم: "أيها الناس إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ؟. وكأنه يلخص رسالته في هذه الكلمات الرائعة.. سبحان الله وكأنه الآن يخاطبنا "لا تتحولوا إلى قابيل وهابيل المصري.. لا يسفك بعضكم دماء بعض ..إياكم واستباحة الدماء أو الأموال أو الأعراض. إنها والله ملخص رسالته.. حقن الدماء المعصومة هو ميراث النبي الحقيقي.. هو بداية الرسالة ونهايتها.. وكأنه يعيش بيننا في مصر والعراق وسوريا وأفغانستان.. وكأنك يا سيدي تشير إلى المتفجرات التي تقتل المئات في لحظة واحدة. ما أهون دماء المسلمين على بعضهم البعض .. وما أهون أكل أموال الناس بالباطل وانتهاك أعراضهم. والغريب أن النبي (صلى الله عليه وسلم) في آخر خطبته يكرر نفس المعنى ويلح عليه.. وكأنه يدرك أن أمته لن تستجيب لندائه الأول فيقول في ختام خطبته: "تعلمن أن كل مسلم أخ للمسلم.. وأن المسلمين إخوة فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه فلا تظلمن أنفسكم". واليوم يا سيدي رعيتك منقسمة علي نفسها طلبا ً للسلطة ورغبة فيها وصراعا ً عليها.. وكل يكفر الآخر.. تركوا دعوتك وهديك وتنازعوا بين من يؤيد فلان أو فلان.. أو "بين تسلم الأيادي أو شعار رابعة".. وكأن من حمل هذه فهو كافر.. ومن رفع هذه فهو مؤمن . انقسمت رعيتك يا سيدي يا رسول الله على الدنيا ومغانمها.. وبعضهم يزرع للآخر المتفجرات على الطريق بعد أن يكفره.. وبعضهم يطلق النار على الآخر فنحن في الفتنة التي"لا يدرى القاتل فيها فيم قَتَل.. ولا يدرى المقتول فيها فيم قُُتل". وفي الختام يلقي الرسول الكريم علي صحابته بيانه النهائي "ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع".. ولكن بعضنا أعاد الجاهلية مرة أخرى. إننا اليوم نعانق الجاهلية ولا ندوسها.. فكلنا يتعصب لنفسه وحزبه وجماعته وفصيله ويدور معهم حيث داروا. وقد يقتل ويشتم ويسب ويكفر ويلعن من أجل حزبه وفصيله ..لقد كسرت لنا يا سيدي من قبل قيود الجاهلية وعصبيتها المقيتة .. ولكننا يا سيدي عدنا نكبل أنفسنا بها من جديد. حتى في الحج يا سيدي نريد أن نأخذ معنا صراعاتنا وشعاراتنا السياسية.. في الحج الذي يستوي فيه الفقير مع الغني وتذوب فيه الأجناس والأعراق وتختفي فيه الرتب والدرجات. وكأننا نريد أن نفسد آخر ما تبقى لنا من شعائر دينية خالصة مخلصة.. لقد تلوثت المساجد والمنابر بالصراع السياسي والحزبي حتى كاد عوام المسلمين أن يكرهوا يوم الجمعة من كثرة ما يراق فيه من دماء ومن كثرة قتلاه وجرحاه وشعاراته السياسية ..فهل ندمر الحج آخر حصوننا.. فيا سيدي يا رسول الله هذه أمتك يكاد أن ينفرط عقدها. لقد ضمت هذه الخطبة الرائعة أعظم ختام " إنكم ستسألون عنى؟ فماذا أنتم قائلون؟".. فبكوا جميعاً قائلين: "نشهد أنك بلغت. لقد رددت عليهم يا سيدي يومها بكلمتك الرائعة وأنت تشير إلي السماء: اللهم فاشهد . لقد بلغت يا سيدي وأتممت الرسالة.. ولكن العيب فينا .. نحن الذين شوهنا رسالتك ومزقناها .. ولم نهتم إلا بظاهرها .. ولم نعرف جوهرها .. نحن يا سيدي سخرناها للدنيا .. وجعلناها مطية لأغراضنا . فعذراً يا سيدي.. فالعيب فينا .. أما أنت يا سيدي فقد شهدت لك جموع الصحابة يومها بالبلاغ الكامل وشهدت كل الأجيال بذلك .. ونحن نشهد بذلك .. ولكن ما حيلتنا وقد غلبتنا أهواؤنا؟.. وقدمنا الخلق علي الحق سبحانه .. ولم ندر حول الشريعة ولكننا أصبحنا ندور حول ذواتنا وأغراضنا وأحزابنا ودنيانا وجاهنا.. وآه.. آه من يوم لقائك يوم القيامة.. واخجلا منك يا سيدي يا رسول الله يوم نلقاك وقد فرطنا كثيرا ً في الأمانة العظيمة التي تركتها لنا . فما أشد خيبتنا يوم نلقاك غداً لتقول للكثيرين منا "لقد غيرتم وبدلتم بعدي فسحقاُ سحقاُ" .. إننا نأمل في شفاعتك مع عفو الله وكرمه وجوده وإحسانه .. فيارب عاملنا بكرمك ولا تعاملنا بعدلك .