الاعتراف بأننا أفضل دولة فى العالم تفقد المصطلحات قيمتها، ليس عيبًا، لأنه أصبح واقعًا ملموسًا فى حياتنا اليومية، اعتاده المتعلم والجاهل، حتى قتلنا القيمة الجمالية لكثير من المصطلحات. نرى مثلاً رجلاً بكامل هيئته التى تشعرك بأنه يعمل فى مكان حساس بالدولة، ينادى على آخر ويقول له "انت يا ريس" "تعال يا بشمهندس"، وتكتشف فى النهاية أن المنادى عليه ما هو إلا رجل يعتلى عربة "كارو" يقودها حمار وأحيانا حماران. لكن ما يعنينا هنا هو مصطلح "ناشط سياسى" الذى يطلق هذه الأيام على كل من هب ودب، حتى أصبحت القنوات الفضائية لا تستضيف غير النشطاء السياسيين، والصحف السيارة لا تأخذ تصريحاتها إلا من النشطاء السياسيين، والمجلس العسكرى لا يجتمع إلا بالنشطاء السياسيين، حتى أصبحت مصر كلها عبارة عن نشطاء سياسيين. ولماذا لا يصبح البلد كله نشطاء سياسيين، وهذا المصطلح يطلق هذه الأيام على "تجار الكلام" الذين أعطاهم الله سعة فى الحنجرة، مما زاد من علو أصواتهم، وكأن الصوت العالى هو "صك الشرعية الثورية" التى أصبحت تجارة تدر دخلاً كبيرًا هذه الأيام، نظرًا لانتشار القنوات الفضائية وارتفاع أجورهم، حسب الإعلانات ونسبة المشاهدة التى يحققها كل منهم. واللافت للنظر أن مصطلح "ناشط سياسى" أو تاجر الكلام يطلق على كل من قام بزيارة ميدان التحرير لمجرد الزيارة، وكل من قام بإنشاء مدونة على شبكة الإنترنت، وكل من أسس "جروب" يتحدث باسم الثورة، أو كل من عقد ندوة لمناقشة "أى حاجة" أو من حالفه الحظ بالانضمام إلى ائتلاف من ائتلافات الثورة التى تخطت 200 ائتلاف. ونشاهد هذه الأيام وجوهًا تطل علينا مرتدية عباءة "ناشط سياسى" - الرخصة الدولية لقيادة المجتمع - وهم فى الأصل تجار كلام، ليقولون ما لا يفعلون، ويرسمون خططًا وسياسات ورؤى لمستقبل هذا البلد الذى لا يعنيهم فى شيء، لأن القائل منهم أنه يعمل لمصلحة هذا البلد كاذب - إلا من رحم ربى - فالكل يعمل لمصلحته الخاصة وأجندته الخاصة. لمن يتذكر أننا كنا فى الماضى القريب عندما نسمع كلمة "ناشط سياسى" فى التليفزيون كان الماشى فينا يقف، والواقف يجلس، والجالس يفتح عينيه على آخرهما حتى تصلا لمرحلة "الجحلظة" من شدة النظر والتركيز فيما يقوله الناشط السياسى من كلام كبير ومتخصص لا نسمعه إلا نادرًا، ولكن هذه الأيام أصبح النشطاء السياسيون كغثاء السيل. وأتذكر ذات يوم عندما تمت استضافتي فى إذاعة البرنامج العام بعد حصولي على جائزة صحفية، وفوجئت "قبل الهواء" بمذيع الحلقة يخبرني أنه سيقدمنى للمستمعين بصفة "الكاتب الصحفى الكبير"، وكنت وقتها لم أتعد 27 عامًا، وعمري فى مهنة الصحافة لم يتخط السنوات الخمس، وما كان منى غير الرفض بأدب، قائلا إنني أعتز بصفة "صحفى" مجردة من أي زيادات. وأعتقد أن العيب هنا ليس عيب من يطلق على نفسه هذا المصطلح "ناشط سياسى"، ولكنه عيب من يقدمه بهذه الصفة، وأقصد الإعلام الذى أصبح لا حول له ولا قوة، ويضعف أمام أى شخص يطلق على نفسه هذا اللقب، فلا بد من تقنين هذا المصطلح، وإعطائه لمن يستحق، وهذه مسئولية القائمين على إدارة وسائل الإعلام، لأن الإعلام هو من أفقد هذا المصطلح بريقه ورونقه.