ما زلت أتابع كملايين المصريين عُرس الانتخابات الذى تمتد خيوطه كشرايين على خريطة الوطن، شرايين تعود الدماء للجريان فيها بعد عقود من الأمراض التى جمدت الدماء واحلت محلها - أحيانا - مياه فاسدة تعمل على إصابة الجسد بكل الأمراض الممكنة حتى لا يقوم ولا يستطيع الكفاح من أجل حريته. أتابع بفرح مثل حال ملايين المصريين الذين فضلوا التعبير عن مواقفهم عبر الطريقة الديمقراطية التى ارتضاها الجميع نظريًا ثم عاد البعض وشكك فيها كما يحدث عادة للآسف. فى اليوم الأول لم أهتم كثيرا بأى حديث خارج الصورة، كان تركيزى الأساسى على الحشود الجماهيرية التى لم يدع لها اتحاد اشتراكى او حزب وطنى ديمقراطى واتحادات عمال وشركات قطاع عام، توقفت كثيرا أمام جموع الشعب التى طحنها الفساد والظلم والطبقية لعقود ولكنهم رغم كل الأشياء ظلوا فى مصريتهم وإنسانيتهم أعظم كثيرًا من الكثير ممن ينظّر عنهم ويتحدث بوصفه الخبير العالم الباحث العالم بالحقيقة المطلقة حول الجموع المهمشة والخطيرة والفقيرة والجاهلة وحزب الكنبة الذين ارتضوا السلامة والأمان ولم يدافعوا عن حرية الوطن كما ينبغى.
حاولت فى اليوم الأول أن أمتع العين والقلب والروح بتلك الصور الجميلة بما فيها من حقيقة حضارية عالية حاول البعض لعقود أن يجعلها حكرًا على كتب التاريخ، حاولت ألا تبتعد العين والأذن عن تلك الصور والكلمات السعيدة التى عبر عنها المواطنون فى مشاركتهم للمرة الأولى رغم أعمارهم الطويلة، حاولت أن أستعيد كل الكلام النظرى عن الاحساس بالقيمة والاحترام والكرامة عندما توضع محل اختبار فإن لم تكن عناصر مهمة للإنسان لما اهتم كل هؤلاء بالذهاب والانتظار بالساعات فى أجواء، بعضها غير مريح لتلك الدرجة ولكن الكرامة تستحق والاحساس بالقيمة يستحق.
حاولت أن أتنسم كل مشاعر الحب والدفء الحاضرة فى مشهد غاب عنه الكثير من ملامح سلبية شهدناها لعقود، استدعيت صورًا للمقارنة بين انتخابات سابقة كان الأمن والبلطجة يدًا واحدة ضد الناخب، وكانت كل ملامح الانتخابات تتحقق ولكن مع غياب الناخب وحضور الموتى، تذكرت الحديث عن نظرية الوفاء الجماهيرى فى مسرحية الزعيم والتى تجعل أصوات الموتى جزءًا أساسيًا من مشهد الانتخابات فى النظم غير الديمقراطية، مشاهد يحضر فيها الموتى ويغيب عنها الأحياء ويتحول الوضع لحلقة مفرغة فالأحياء مهمشون وليس لصوتهم قيمة وحضورهم لن يكون مؤثراً وفى حياتهم هم كالأموات يتم حشر أصواتهم فى الصناديق من باب استكمال الصورة وحتى لا تبدو الصناديق فارغة فى المشهد السينمائى الذى كان يتم تمثيله فى كل انتخابات.
تساءلت من يعبر فعلًا عن تلك الجماهير، فالشعب الذى تم التعامل معه على أنه مهمش قبل الانتخابات وراضيًا بالكنبة بعدها مثَل عنصر دهشة على الجميع أن يعيد النظر فى حساباته بعده. انتصرت منذ البداية لدور الكتلة الصامتة، أغلبية الجماهير المصرية التى لا تنزل للشارع عادة ولكنها تكون مرجحة للخيار النهائى وتدخل على المشهد عندما تشعر بأن لها قيمة وأنها ستكون فارقة فى المشهد.. انتصرت لفكرة أن الثورة ثورة لأن الملايين انتصروا لفكرة التغيير وامتلأت شوراع وميادين مصر بملايين أسقطت قدرة القمع على الحفاظ على النظام فسقط نسبيًا، عادت الكتلة الصامتة إلى منطقتها الآمنة مجدداً لأنها لم تكن معنية ولم يستمع أحد لصوتها وتفرغ العدد الكبير للفضائيات والأحاديث الأكاديمية التى لا تتقاطع مع معظم الجماهير وتم استنزاف وقت كبير فى جدل، وجدل مضاد لم يساعد فى التواصل مع الجماهير وهو الأمر الذى كان يفترض أن يكون أولوية ما بعد الثورة. عادت الجماهير مرة أخرى للظهور بقوة على المشهد مع الاستفتاء لأنها شعرت أن وجودها عنصر محدد للمستقبل كما قيل فكانت على قدر مستوى انتظار مصر فتحركت وشاركت ولكن بدلاً من تقدير تلك الرغبة فى المشاركة التى عبرت عنها الكتلة الصامتة ركز العديد من التعليقات والتصريحات على جهل الأغلبية والتلاعب بهم فى ظل حالة الأمية المتفشية فيهم، عادت الكتلة الصامتة لمكانها الآمن الذى تشعر فيه بقيمتها ولا تتعرض فيه للتوبيخ الطبقى وعندما عاد المشهد مرة أخرى ليطالبهم بالنزول كانت حركتهم أسرع وأكثر وعيا من ذى قبل.
توقفت كثيراً خلال أيام الثورة وبعدها عند العديد من التصريحات التى تطالب المصريين بشد الحزام والتحمل، لم أتوقف حول المضمون نفسه بقدر ما توقفت حول القائل الذى كان يردد نفس الخطاب لعقود سابقة عن الثورة وتساءلت لماذا على عموم المصريين شد الحزام بناءً على توجيهات هؤلاء المتحدثين قبل الثورة وبعدها؟ توقفت أمام الكثير من التعليقات التى ظهرت خلال وبعد استفتاء مارس والتى أكدت سهولة شراء الشعب بسبب جهله وتساءلت ما الفارق بين تلك التعليقات وخطاب نظام مبارك المراد إسقاطه حول الشعب القاصر الذى لم ينضج بعد للديمقراطية؟ تعجبت لأن مبارك على الأقل اكتفى من الديمقراطية باسم الحزب فى حين أن هؤلاء المتحدثين يتم تعريفهم بوصفهم دعاة للديمقراطية والحرية.
توقفت بكل الإجلال والحب والتقدير أمام هؤلاء الذين اختاروا المشاركة فى الانتخابات وانتصروا للوطن رغم أن التجربة فى مصر تقول بأنهم فى معظم الأحيان وقود المعركة فغيرهم يستفيد بالكم الأكبر وتترك لهم الفتات أو شد الحزام إن ترك لهم شيئا. ولكن لم يرغب البعض على ما يبدو أن تستمر تلك المشاهد وأن يفرح المواطن بمشاركته ويشعر بأن هناك من يشاركه فرحته بقدرته على المشاركة والتعبير عن رأيه. تجاوز البعض فكرة المشاركة وأراد أن يلعب دور سارق الفرح من خلال العودة سريعا لخطاب الاستفتاء وبدء الحديث عن المهمشين والأميين غير القادرين على المشاركة والذى يسهل شراء أصواتهم وسيكون لهم دور فى تفتيت الأصوات بسبب اختياراتهم العشوائية ووصل الأمر بالبعض لاستخدام خطاب يتسم بالطبقية والاستعلاء والإهانة لمواطنين مصريين لم يسأل أحد نفسه عن المسؤول عن الوضع الذى أوصلهم لما هم فيه، ولم يقل أحد ببساطة إن هؤلاء هم المستهدفون من الإصلاح إن أردناها ثورة، ولم يتوقف أحد ليقول إن تكرار تلك المقولات الطبقية هى نفسها جزء من نظام يراد إسقاطه وجزء من عقلية "باشا" التى أوصلت عناصر يفترض بها تطبيق الأمن لعناصر تهدد الأمن وتنتهك الكرامة الانسانية. لم يتركوا لى اليوم الثانى لأستمر فى مشاهداتى وإحساسى بالفخر بأبناء مصر وهم يشاركون فى عرسها الديمقراطى بما يحمله من معنى تحرر الانسان وسعيه للمشاركة وإيصال اسمه بنفسه بدلاً من انسحابه من الحياة السياسية كما حدث لعقود، وبدأ المشهد بالنسبة لى كتناقض بين انتقادات ساخنة لحزب "الكنبة" استمرت لشهور ما بعد الثورة وانتقادات يتعرض لها كل من يشارك بوصفه غير مؤهل وغير معد.
حاولت أن أتجاوز تلك الملامح السلبية وأن أركز على المواطن، "الإنسان" كما أحبه وأقدره ولكن جاءت سلسلة من الرسائل الإلكترونية لتخرجنى عن محاولة التجاوز وتحديداً مقال أكد فيه كاتبه أنه يعتمد الأسلوب العلمى لقراءة الانتخابات المصرية وهو الأسلوب الذى استند وفقا له إلى عدة عناصر منها الوجود فى عدة لجان والحديث مع بعض المشاركين وملاحظاته على الأداء، وانطلق المقال من الحديث عن مشاركة عدد كبير من الأميين فى الانتخابات بما يهدد الانتخابات ليصل فى النهاية إلى ضرورة وضع قانون يحدد من له حق المشاركة فى الانتخابات والغريب أن يرد عليه البعض بالإشادة والثناء والرجاء بضرورة تفعيل مثل تلك الأفكار العلمية. لم أفهم كيف يرى أى شخص أن من حقه أن يمنح مواطنة كاملة وينتقص من مواطنة إنسان آخر؟ ومن قال إن شهادة أى شخص العلمية تجعله مواطنًا مميزًا أو مواطنًا درجة أولى يحق له أن ينتقص من مواطنة غيره؟ وأى ديمقراطية تقوم على استبعاد جماهير الشعب وحكم الأقلية المتعلمة؟ تساءلت: أى ديمقراطية وثورة تقوم على أساس ظلم الأغلبية وإحلال فرعون بأخر أو حكم عائلة بحكم "صفوة"؟ وتساءلت عن الجرأة التى أوصلت البعض لهذا الحد من الاستعلاء الطبقى على جموع الشعب المصرى؟
الغريب أن الثورة فى تصورى تقوم على إسقاط نظام بما فيه من أمراض وبناء نظام جديد سليم وصحى، الغريب أن الثورة يفترض بها أن تعيد الوطن لمن حرم منه وتعيد المهشمين إلى حضن الوطن، الغريب أن الثورة يفترض بها أن تعالج أمراض النظام الذى ترك هذا الجزء العزيز من شعبه معرضا لكل تلك الأمراض خلال عقود. والمثير للاهتمام بالنسبة لى أن الجميع تفرغ لتلك الصراعات الفوقية ولم ينزل أحد للجماهير وعندما يكون قرار الجماهير الفعلى أو المتوقع على غير رغبته يستل سيف الجهل لقتل قيمة المشاركة دون أن يحاول الوصول للناخبين والمساهمة فى نقل الثورة كفكرة للجماهير.
تذكرت حديثًا مع صديقة عزيزة فى العام الأول فى الجامعة عندما شعرت بحيرة شديدة لوجود عدة مواد عليها أن تختار منها، كان تعليقها على الحدث الغريب بالنسبة لها أنها تفضل أن تكون كل المواد إجبارية وكان تعليقها بالنسبة لى ورغم كل تلك السنوات التى مرت على الحدث معبراً عن الكثير من الأشياء فى المجتمع المصرى، فالمواطن فى عمومه ومن دون خطاب طبقى اجتماعى أو تعليمى أرفضه كليًا لم يمارس عبء الاختيار وتحمل مسؤولية اختياره، كان الإجبار بالنسبة لها حلا يريح ضميرها ويبرر لها الفشل والنجاح، ولكن عندما يدخل الاختيار على المشهد تصبح المسؤولية رهنا بقرار الفرد وتصبح العلاقة بين القرار والنتيجة مباشرة وعلى الشخص أن يتحمل قراره. فى هذا أعود لتعليقات أكثر موضوعية ونقاشات مع بعض الأصدقاء من "المتعلمين" فالاختيار كثقافة والمشاركة فى الحياة السياسية ليست حكرًا على أحد فالنظام المراد إسقاطه اتخذ القرار للجميع لعقود وتحمل عنهم عبء الاختيار وتركهم مثل صديقتى بعد الخروج من سنوات تعليم لا نملك فيها حق اختيار المواد لتعليم يكون علينا فيه أن نختار، والآن يخرج الجميع من آليات معروفة لأوضاع مفاجئة بما فيها صور الجماهير التى افترض أنها ستغيب عن المشهد وتترك له الصندوق كى يقوم بتحليله وتنظيره.
أعيب على الكثير من الأصوات التى اعتمد خطابها فى مرحلة ما بعد الثورة آليات مشابهة لتلك الآليات التى يفترض إسقاطها، فالأسماء المرشحة كثيرة ولكن البرامج لا تبدو واضحة، والجدل تركز على جزئيات تفصيلية هنا وهناك دون مشاركة المواطن فى جدل بناء حول البرامج والمستقبل والسياسات. المواطن المصرى فى صفوفه الطويلة التى رسمت شرايين تغذى جسد الوطن يعبر خطوات تفوق بعض من يتحدث عنه ويرغب فى أن يتولى قراره ولهؤلاء فقط أعتقد أن عليهم أن يعيدوا القراءة مرة أخرى فالمواطن أولًا وأخيرًا والثورة لا تعنى استبدال المال بالشهادة وخلق ديكتاتورية جديدة تقوم على تهميش الجموع، الثورة كما أعرفها هى الميادين والشوارع الثائرة ودماء الشهداء التى سالت مصرية طاهرة لم تبحث عن أصحاب الشهادات ولم تلفظ أبناء الوطن من المهمشين كما يطلق عليهم.
أعتذر لكل مواطن مصرى أسعدنى خروجه وانضمامه لصفوف الحرية، أعتذر لهم لأننى افتقدت بعض الصور الجميلة التى أعادوها لنا من كتب التراث والتاريخ القديم، أعتذر لهم وأشكرهم لأنهم مصر التى أحبها ومصر الأم المريضة التى نرجو أن تعود سليمة معافاة كما كانت يومًا.