قد نختلف على العديد من الأشياء، ولكننا لا نستطيع أن نختلف على قدرة الشعب المصرى الخاصة فى إنتاج الكوميديا، وتحويل كل موقف إلى حالة من الابتسام حتى وإن كان نوعا من الكوميديا السوداء، ولكنها بكل الأحوال تمثل جزءاً أساسياً من البرنامج الحوارى الدائر فى مصر، خاصة أنها برزت واضحة خلال أحداث الثورة المصرية وساهمت -كما أراها- ضمن عوامل أخرى فى دفع الحماسة أحيانا وفى تخفيف حدة الأحداث على المشاركين فيها، فأصبح كل تعليق وكل شعار تعبيرا عن حالة وجزءا من تاريخ لحظات يفترض ألا تنسى من تاريخ مصر. ربما تزايدت المسألة أحيانا وطرحت تساؤلاتها حول حدود الكوميديا أو السخرية فى التعامل مع الأحداث، وإلى أى مدى يمكن أن تكون الكوميديا والسخرية مطلوبة فى لحظة كونها تكثف الحدث، وغير مطلوبة فى لحظة أخرى كونها تخفف من حدة الحدث. ولكن المهم أن الكوميديا ظلت حاضرة منذ بداية الثورة، وظهرت واضحة فى مقولات امتدت لتشمل الرسائل التى يتبادلها المصريون، وتحديدا فيما يتعلق باستخدام كلمات مثل مبارك وجمال ونظيف وسرور فى محتوى تلك الرسائل، وكأن القطيعة بين مصر النظام المراد إسقاطه، والنظام المراد تأسيسه قابلة للتعميم حتى فى رسائل الأعياد والمناسبات، وكأن أسماء هؤلاء المنتمين للنظام المراد إسقاطه لا يجب لها أن تشارك فى فرحتنا بعيد ليسوا فيه على الكراسى. مرت أحداث كثيرة على مصر، احتفالات ومناسبات كان الطبيعى فيها قبل الثورة أن نشاهد الرئيس السابق محمد حسنى مبارك، وهو يخرج علينا بكلمته السنوية المصاحبة، التى تتحدث عن الإنجازات التى حققتها الحكومة والحزب الوطنى الديمقراطى لمصر، والزيادات التى تحققت فى الإنتاج، والرخاء القادم والذى يفترض أن ننتظره وينتظره الورثة من بعدنا كما انتظرناه بدورنا من بعد أبائنا ولكنه لم يأتى. ولكن بعد الثورة مرت تلك الأحداث دون أن يخرج علينا الحزب الوطنى مبايعا، أو جمال مبارك حاضرا للقاء لا يهدف إلا إلى تدشين صورته كقائد ورئيس قادم دون مراعاة لشعب افترضه النظام المراد إسقاطه خارج حساباته، فلم يهتم به إلا بوصفه جمهورا مستمعا لما يمن به الحاكم عليه مع كل رسالة معلبة ومجهز لها أصوات الهتاف والتصفيق مسبقا عبر شخصيات ارتضت أن تمارس هذا الدور وسعت له. وبشكل كوميدى كان من الطبيعى أن نتساءل أين الرئيس فى خطاب عيد العمال، من سيخرج علينا هذا العام ليتحدث عن الزعيم وميلاده الذى أثمرت له الأرض وتفتحتت له الأزهار وينتظره الشعب من عام لعام للاحتفال دون أن ننسى المعاناة التى يتحملها فى توليه لأعباء الرئاسة من افتقاد لبعض الأكلات والشوق للمشى فى بعض الشوارع والحارات. كان من الطبيعى أن تثار تلك التساؤلات فى مرحلة ما بعد الثورة ليس للرغبة فيها أو لاستدعائها للذاكرة من باب الافتقاد، ولكن لتذكرها بوصفها جزءا من النظام المراد إسقاطه، التى لا ينبغى أن تولد مرة أخرى، فالفرعون مات ويجب أن تموت صناعة الفرعون معه. كان من الطبيعى أن يركز الجميع على تلك المظاهر التى صاحبت مرحلة ما قبل الثورة، ولكن لأن الثورة لم تكتمل ولأن النظام لم يسقط فأن مظاهر خلق الفرعون لم تسقط، والقائمين على خلق الفرعون لم يسقطوا بعد، خاصة أن أماكنهم محفوظة وساحاتهم متاحة وفرص وصولهم مازالت قائمة ومخاطرهم تبدو هامشية، ولكنها أكثر خطورة من المفسدين بشكل علنى وواضح. ولأن النظام المراد إسقاطه كان له مستشاريه ممن أوصلوه لتلك الحالة التى وصل إليها رموزه، فإن البعض مازال يرى أن لديهم من الآليات ما يسمح لهم بممارسة الخديعة والعودة لوضعية ما قبل 25 يناير وتدشين النظام مرة أخرى، ولكن فى أقنية جديدة وبارتداء أثواب جديدة، ولهذا جاء معظم التغيير هامشى وشكلى دون أن يمس الجوهر ودون أن يهدف لتغيير الأساس. ولأن الأساس فاسد ومريض ومرفوض، فإن ما يتم بناءه عليه من شأنه أن يكون فاسدا ومريضا أيضا، ولكن لأنه يأتى فى سياق الثورة فإن مساحة رفضه أكبر وصوت الرفض ضده أعلى وقدرة المصريون على رؤيته أعمق. لم يدركوا أن الشعب الذى أرتضى صامتا أن يظلم لعقود يصعب عليه أن يخدع مرة أخرى أو يرتضى الخديعة، بعد أن رأى حجم ما تعرض له من ظلم وفساد خلال عقود فى خديعة كبرى حول موارد الدولة المحدودة وعدد السكان الضخم، ولهذا يقف الشعب متحفزا لكل حدث، واضعا الجميع بما فيهم المجلس الأعلى للقوات المسلحة والحكومة وكل من يشغل مساحة من المشهد العام تحت المجهر، فلا أحد خارج المناقشة أو النقد ولا أحد فوق الجميع، فقط مصر والمصريين، لهذا كان الطبيعى أن يحظى التعامل مع حدث عيد ميلاد المشير محمد حسين طنطاوى - رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة- بالاهتمام سواء فى كيفية تعامله هو شخصيا مع الحدث، أو التعامل الرسمى وغير الرسمى معه. ولأن هناك من يخترع "فرعون" دوما، ولأن هناك الدب الذى يقتل صاحبه أحيانا.. لم يمر الحدث مرور صامت أو مرور يتناسب مع الثورة وحالة رفض النظام المراد إسقاطه، فأصبح جزءا من البرنامج الحوارى الدائر. وللآسف رأى البعض أن عليه الاستمرار فى إنتاج آليات ما قبل الثورة، والاستمرار فى إنتاج فرعون حتى إن لم يسعى الشخص نفسه لهذا، لأن البعض لا يستطيع أن يعيش بدون وجود الفرعون، ولا يستطيع أن يتخيل أن يحيا فى بيئة قائمة على الديمقراطية والمساواة والحرية، ولا أن يعمل فى بيئة يقيم فيها حسب كفاءته وحسب قدراته وعمله، فالبعض يدرك أن حدود وجوده مرتبطة بوجود الفرعون، وإن لم يكن هناك واحد عليهم اختراع واحد والبقاء فى جواره وتغذية وجوده حتى يتضخم ويمتد لأبعاد الصورة، بما يمكنهم من الحياة على هامش وجوده، لا أستطيع أن أقول أن المشير فرعون أو أراد من أحد أن يصنعه كفرعون، ولا أستطيع أن أدخل فى نية أحد كما يفعل البعض مؤكدين أنه يرغب فى هذا أو يسعى إليه، فالنيات يعلمها الرحمن وليست مجالا للنقاش أو التقييم أو الحكم عليها. ما لدينا هو حقائق، ولكن الحقائق لا تقول الكثير أيضا، فهل سعى المشير أو المجلس بشكل مباشر أو غير مباشر إلى تدشين حملة ترشيحه لتولى الرئاسة تحت شعار "الاستقرار" سيئ السمعة عندما يرتبط بالسلطوية، أم أن من قام بالحملة قام بها للإضرار بصورة المشير والجيش، أو قام بها لإعادة اختراع الفرعون الذى لا يتنفس إلا فى وجوده؟ وهل من قام باختيار موعد رفع علم مصر على أعلى سارية قصد أن يحدث هذا بالتزامن مع عيد ميلاد المشير ولتوجيه رسالة ضمنية حول ارتباط رفع اسم مصر وعلمها عاليا بالمشير ووجوده، أو بالمجلس العسكرى ووجوده، أو حتى بوجود شخصية عسكرية على رأس هرم السلطة؟ أم أن ما حدث مجرد مصادفة حسنة النية؟ أو قام بها من أراد اختراع الفرعون، تلك تساؤلات مطروحة ويضاف إليها ما ورد فى أخبار أخرى من تسريبات -كما قيل- تشير لتلقى المشير لمكالمة تهنئة بعيد ميلاده من الرئيس السابق مبارك، بالإضافة إلى زيارة المشير له فى محبسه المفترض فى المستشفى، وهو ما يثير الغضب لدى المتلقى للخبر والتساؤل حول السجون أو الوضعية التى يفترض فيها وجود شخص ما فى سجن، وبين حريته فى إجراء مكالمات تهنئة بعيد الميلاد، أو زيارة رئيس المجلس العسكرى الحاكم مؤقتا بعد الثورة للرئيس الذى قامت تلك الثورة بالإطاحة به حين دفعته للتنحى، فلا الوضعية الأولى تتناسب مع أوضاع السجون فى مصر كما نعرفها، ولا الوضعية الثانية تتناسب مع حالة الثورة كما يفترض بها. ولأننا فى واقع ثورة فإن تلك الأسئلة والتسريبات وغيرها من النقاط المثارة هنا وهناك تحتاج لآليات تعامل تختلف عن آليات تعامل النظام المراد إسقاطه، تحتاج من المسؤول فى موقعه أن يخرج ببيان يوضح فيه حقيقة ما حدث، وحقيقة دوره فيما حدث ويحدث، وأسباب قيامه بفعل ما إن كان قد قام به، أما أن تترك الأمور دون تعامل رسمى فهى آلية جرب رموز النظام المراد إسقاطه التعامل بها ففشلت، وآلية اختبرتها مصر وكل النظم السلطوية ومصيرها الفشل ولو بعد حين. مازالت الثورة مغيبة لأن البعض يتخيل أن الشعب أقل من الخروج عليه ببيان رسمى يوضح حقائق ما يحدث، ولأن البعض يرى أن المرحلة الانتقالية وسيلة لإعادة إنتاج فرعون جديد، ولأن البعض الآخر يراهن بأن النسيان طبع الحارة، ولكنه على ما يبدو مر من حارة أخرى أو فى يوم آخر فلم يشهد الثورة ولم يشعر بحجم الغضب ولم يشعر بصدق الطلب ولا بقوة الحق. مازال أمام المجلس الأعلى فرصة، وأمام المشير فرصة فى حماية مكانة المجلس ودوره، وأن تضاف تلك المرحلة -رغم أخطائها- ضمن رؤيتنا الإيجابية عن الجيش عندما نقص حكاية الثورة، ولكن لحدوث هذا على المجلس أن يتعلم من أخطاء النظام المراد إسقاطه أولاً، وأن يدرك أن فى مصر ما يسمى ثورة.