لم تصل الثورةُ بعدُ إلى مَنزِلنا لتُعيدَ صبايَ إلىَّ وتطرد من رجليَّ الرملَ ومن عينيَّ دخاناَ لم تصل الثورة بعدُ إلى غابات المقهى لتبدل طعْم الشاي وإيقاعَ الكلماتِ وتَهبَ الصوت صدىً والدهشة جسداَ والشاعر نجماً.. يصحبه في الظلمة أو كرواناً ماذا تفعل يا كهلُ هنا؟ هل تنتظر الثورة تقفز من شُباكِكَ لتُبدَّلكَ.. وتسكب في داخلك شذاها وعواصفها؟ لم يعد المقهى جحراً تولد فيه الثورةُ .. أو تتوارى زمن الثوريَّ الشبحيَّ مضى والثوريَّ القبطانِ وجاء زمان الشاشةِ والميدان الثورة في الشاشات حَبَتْ وانتصبتْ في الساحات وصارت شجراً والمقهى صار مكاناً ننْساق إليهِ لكي نقتلع البرد من الكلمات ونزهو بقصائد لم نكتبها وطيور في الأعماق غَفَتْ ... هل منحتك الثورةُ رُتبْة نهرٍ أو ظل ملاكٍ وأرتك مكانك في جنتها؟ أم لاذت بالشاشات وبالأفواه المتلوَّنةِ وقطاع الطرقات وصارتْ أعلاماً وكلاماً وجوائز لقراصنةٍ ولمحتالين انتظروا مثل ضِباعٍ.. ولمهووسين احتضنوا صحراوات الماضي واتخذوا الأبيضَ وطناً والأصفر ديناً كرَّر يا كهل عواءك كرّرْ واخترْ لنشيدك بحراً لم يُفسده المداحون.. وكرّرْ غضبك وبراكينك وارشقْ لهبك في الساحات وثُرْ ما لا يتكرر يفنى ... قال الموج هناكَ.. وقال هنا وتمطى في شباك الصيادِ وتحت رموش البنتِ ورقص وغنّى ليطهرَ ماءً ويغير صُوراً ويحاصر بالإيقاع أعاصيرَ النسيانِ ويهتف ضد الفوضى والسفاحينَ وضد المداحين اعتادوا الرَّمْحَ ومنح القطة ثوب الفيلِ وطمْسَ هلال المعنى.
الظروف التي تحيط بنا تجعلنا نحترق ونتقافز ونسب ونلعن ونبكي، لكن شاعرنا الكبير – محمد سليمان – يحمل حزنه وبكاءه ورفضه ويكتب به، انه الفاهم المدرك لبواطن الأمور المحيطة بنا، لذا جاءت قصيدته (قال الموج)، كصفعة على عقول أهل الوطن كي يفهموا، مع ان الأمور واضحة كالشمس، لكننا دائماً نلوذ بالأبيض ليصبح وطناً وهو هنا الجهل، ونتخذ الأصفر ديناً وهي الكراهية والتعصب. محمد سليمان في هذه القصيدة (قال الموج) يفتح قلبه بهدوئه المعروف عنه، هدوء الحكماء والفلاسفة والعظماء، لذا لا تجده يتقافز في شاشات التليفزيون أو على صفحات الجرائد ويهتف: أنا شاعر الثورة، وأنا الذي نزلت الميدان ليلة 25 يناير، وأنا أول من تنبأ بالثورة، وأنا القائد العظيم، وأن قصائدي كانت تسب وتلعن النظام السابق، انه يفهم أن دوره هو أن يكتب شعراً طاهراً كالملائكة التي يصاحبها، فاضحاً كنصل السيف الذي يحمله، وكالطين الذي يسير عليه في الطرقات، اعترف انني كنت اخشى أن احتك بقصائد الشاعر الكبير محمد سليمان، لكن قصيدته ( قال الموج) هزتني وجعلتني أدرك ما لا أدرك، وافهم كما لم افهم، وابتسم كما لم ابتسم من قبل، فمازالت قضبان القطارات معوجة ولا تصل بركابها إلى محطاتهم، كما أن شمسنا اعتلاها الهالوك والخفافيش والعناكب، كما أن ثورتنا مازالت حبيسة شاشة التليفزيون الباهتة.
تأخذنا القصيدة كأمواجها رأسياً فتقربنا إلى شاطئ الأمان ثم تقذفنا وسط الأمواج الهادرة، وسط لغة مكثفة شديدة العذوبة والوضوح، ثم تبدأ في الارتفاع بنا كي نصل إلى حافة القمر ونقبض على الشمس بأيدينا، لا لتحرقنا بل كي تذيب جليدا وغباء وفساد أعوام من السطحية والبلاهة عن عقولنا، ولا يكتفي شاعرنا بذلك، بل ينقش قصيدته كي تكون تاج ثورتنا إذا فهمنا معنى الثورة، وبابا للبصيرة إذا كانت أبصارنا مازالت ترى، ان القلوب الملكومة لم تعد تفرق بين التصفيق بالأيدي أو التصفيق على الخدود، هنا جاء حكيمنا، شاعرنا سليمان بحسه الإنساني الرهيف ليزيدنا معرفة وعمقا وإدراكا.
لم تصل الثورةُ بعدُ، إلى مَنزِلنا، لتُعيدَ صبايَ إلىَّ، وتطرد من رجليَّ الرملَ، ومن عينيَّ دخاناَ، لم تصل الثورة بعدُ، إلى غابات المقهى، لتبدل طعْم الشاي، وإيقاعَ الكلماتِ، وتَهبَ الصوت صديً: هذه هي الثورة الحقيقة كما يفهمها الشاعر، وما يحدث الآن على ارض الوطن من أقوال فلول النظام القديم أو الثورة المضادة أو أي شيء من هذا القبيل، فإن هذا عبث و"ضحك على الذقون"، وذلك لأن الثورة إيمان وعقيدة مثل الأديان السماوية، لكن ثورتنا تتقافز ليل نهار في الشاشات، الجميع أبطال، والجميع دخل المعركة، والجميع يعلن انتصاره، من أول أصحاب الذقون إلى مقدمي البرامج المتلونين، الجميع شعراء الثورة وأبطالها، ومحمد سليمان يقف في انتظار أتوبيس يقله إلى منزله في حدائق القبة، يشاهد وجوه الناس ويشم عرقهم ويعرف أكثر منا جميعا ويفهم اقوى منا جميعا، ونحن في احتياج دائم له، كي يعيد لنا الهدوء أثناء نظرتنا للأمور، ونظرتنا لحياتنا، ماذا نريد، وماذا نفعل، وماذا نمتلك، هكذا يكون الشاعر، ليس عبداً في ديوان الملك، وليس متسولا في مطارات الغرباء، وليس سمكة على مائدة الأثرياء، انه السمو والطهر والطهارة، ان الحسن الإنساني الذي تضفيه تلك القصيدة هو عمق المعرفة التي نكرهها، وأن الجراد الذي ملأ شوارعنا ومزارعنا وصحراواتنا وشاشاتنا مازال موجود ويتكاثر، ان قوة تلك القصيدة يأتي من البديهيات التي تغلفها، ومن الأسئلة التي تطرحها، ومن البراهين الواضحة التي لا نراها، فالثورة إيمان ومشاركة وفعل وعمل.
ان الشاعر يفهم أن ثورة المجموع جاءت بينما ثورة الفرد لم تأتي بعد، ثورة تغيير من الداخل للخارج، ثورة تنبش تلك العقول العفنة وتنظفها وتطهرها من الدنس والفساد والهبل والتفاهة، ثورة جذرية، تبدأ بالأسئلة عن الحياة والقيم والمفاهيم التي نعيشها، أن محمد سليمان مثله كالعظماء على ساحة الكون على مر التاريخ، بسيط يطرح أسئلته: ماذا تفهل يا كهلُ هنا؟ هل تنتظر الثورة تقفز من شُباكِكَ..لتُبدَّلكَ..وتسكب في داخلك شذاها، ويكمل في سخرية حادة: زمن الثوريَّ الشبحيَّ مضي.. والثوريَّ القبطانِ، علم أن قادة الثورات انتهوا وأن ينتظر الناس بيان في الراديو عن انقلاب أو شخص يعتلي سدرة الحكم، كل ذلك مضى، ويكمل شارحاً لنا جهلنا الأبيض: وجاء زمان الشاشةِ والميدان..الثورة في الشاشات حَبَتْ..وانتصبتْ في الساحات وصارت شجراً.. يعلم هنا أن الثورة اصبحت مثل مباريات كرة القدم ننفعل معها للحظات، ونتناقش ونتعارك حولها ثم ننتظر محاوري البرامج في ملل وتفاهة كي يحللوا لنا (وكأنه يجب أن يقدم لنا أحد شرحاً لما رأيناه)، أن الثورة التي رأيناها بأعيننا في الميدان لم نرها بأعيننا بل بأفواهنا فقط، نعم برقت أعيننا للحظات، ثم قمنا بتحويل القناة على أي قناة أخرى، مثلما كنا نفعل عندما نشاهد القتلى في العراق أو فلسطين أو جوعى الصومال أو أي مكان آخر، وتتوقف مشاركتنا الفعلية فقط عند تلك الحدود، لذا لم تسر ثورتنا في الاتجاه الصحيح.
ويستمر محمد سليمان مثل حكماء الزمان في إلقاء الأسئلة ولا أحد يجيبه غير روحه الطاهرة: هل منحتك الثورةُ رُتبْة نهرٍ..أو ظل ملاكٍ..وأرتك مكانك في جنتها؟ حقاً لم تفعل الثورة بنا أي شيء ولم نر منها أي نعيم، بل زادتنا بؤسا وتشتتا، وهذا ليس عيبا في ثورتنا بل عيبا في من يتقافزون في الشاشات، أولاد الأفاعي الذين يتكاثرون ويتقافزون، ويكمل شاعرنا الكبير: أم لاذت بالشاشات.. وبالأفواه المتلوَّنةِ.. وقطاع الطرقات وصارتْ أعلاماً..وكلاماً..وجوائز لقراصنةٍ..ولمحتالين انتظروا مثل ضِباعٍ.. ولمهووسين احتضنوا صحراوات الماضي.. واتخذوا الأبيضَ وطناً.. والأصفر ديناً..كرَّر يا كهل عواءك كرّرْ..واخترْ لنشيدك بحراً..لم يُفسده ..المداحون..وكرّرْ..غضبك وبراكينك وارشقْ..لهبك في الساحات وثُرْ.. ما لا يتكرر يفنى.. هنا يصمم محمد سليمان أن يلهبنا بالسوط كي نفهم، الوجوه هي الوجوه، لكن الكلمات تبدلت، الذين مجدوا النظام السابق هم الذين يلعنونه الآن، لكن نحن، واقصد هنا الغلابة والبسطاء من أهل هذا الوطن، الذين يشاهدون الشاشة بالأفواه وليس بالعقول، لنظل نثرثر أياماً عليهم وعلى تفاهتهم على انهم أبطال، وقالوا ما لم يقله احد من قبل وتناقشوا كما لم يتناقش احد من قبل، وفي الخاتمة يقدم البديهيات فيجب أن تعود للمياه صفاؤها، وللروح بهاؤها، وللوجوه ابتساماتها، ولكن كيف يحدث ذلك والقلب لا تسكنه حبيبة، والجيب لم يعد به نقود، والحذاء ممزق لا يستطيع السير في الطرقات، لكن محمد سليمان يلقي كل ذلك ويؤكد، بعد أن يشعل سيجارته الأخيرة: حيث اشعر بنفاد علبة سجائره: قال الموج هناكَ.. وقال هنا، وتمطى في شباك الصيادِ، وتحت رموش البنتِ، رقص وغنّي، ليطهرَ ماءً، ويغير صُوراً، ويحاصر بالإيقاع أعاصيرَ النسيانِ، ويهتف ضد الفوضى والسفاحينَ، وضد مداحين اعتادوا الرَّمْحَ، ومنح القطة ثوب الفيلِ، وطمْسَ هلال المعنى.
نحن معك يا شاعرنا ننتظر هز الهلال كي يأتي لنا بالحقائق، ننتظر المياه التي سارت سراباً، ننتظر الغد الذي حاربنا وحوصرنا وقصفوا أقلامنا بسببه، نشكرك ونقبل وجنتيك على قصيدتك البهية التي أثارت في نفوسنا هذا السمو والطهر والشموخ، بعيداً عن شاشات هي في الأصل مليئة بالألوان المائعة والكريهة التي غلفت حياتنا حتي اصبحت أبيض الجهل واصفر الكراهية واحمر الوقيعة وأسود الموت، ومعك ننتظر هلال الحرية والبهجة والفرح لأننا سوف نسمع كلام الموج وهسيس الريح ووشوشة الشجر ونترجم أشعة الشمس كي تصبح تاجا للوطن الغالي.
وسوف تظل هذه القصيدة القصيرة رغم بساطتها كاشفة كل ما يمر بحياتنا الآن، لأن محمد سليمان لا يرص الأبيات حتى تصبح قصيدة، أو القصائد حتى تصبح ديواناً، كما انه لا يصلح من البخلاء يضع القرش على القرش حتى يصبح زكيبة نقود، إنما هو متأمل كالفلاسفة، كاشف الحقائق كأطباء الطب الشرعي، مداو بدون علاج كحكماء الأديرة، يحمل قلمه الذي يكتب به القصائد من أنفاس ودخان وشوارع وأرصفة وغيطان وصحراوات الوطن العربي الكبير، والحزن الذي يملأ قصيدته هو حزن الحقيقة، لا يتصنع البكاء ولم يصرخ ولم يتقافز ولم يعلن انه لم يحصل على مناصب أو لم يزد مرتبه أو لم يحصل على شقة، ولم يعلن انه سليمان الملك الذي جاء بالريح كي يزيح النظام، واستدعى العفاريت كي تقوم بالثورة، وأمر النمل فنخرت كرسيه، بل هو عادي وهادي وبسيط مثلنا، أنكوى مثلنا، وتمت محاصرته مثلنا ووضعوه في حيز ضيق لا يتسع لرحابة كلمات قصائده، وقد حان الوقت كي ننبش في قصائده، لتراها شمس عقولنا وتخرق طبل آذاننا ونراها بمقل بصيرتنا كي نفهم وندرك لأول مرة ما يدور حولنا.