غدا السبت تتقاطع الذكرى ال28 لرحيل أمير شعراء الرفض أمل دنقل مع انقضاء الثلث الأول من عام الثورة، وهى الذكرى التى استبقها أنس دنقل شقيق الشاعر بالكشف عن إحدى قصائده المجهولة، قال إنها ثمرة النبش فى أوراق أمل المنزلية، بقرية القلعة، وهى: «إهداء إلى الشرطى السرى»، ومؤرخة بعام 1971. عندما قرأت القصيدة على الشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودى بادرنى قائلا: «هذا أمل»، وصار الشاعر والناقد محمد بدوى شبه متأكد من أنها «شغله»، بينما أكد الشاعر رفعت سلام، الذى كان معنيا بالتأريخ لقصائد أمل الأولى وغير المعروفة، أنها قصيدته، موضحا أنه لو لم يقرأ تاريخ كتابتها عام 1971، لاستطاع ترتيبها ضمن أرشيف أشعاره، فيما رفضت الكاتبة عبلة الروينى، أرملة الشاعر، التصديق على صحة نسب القصيدة لزوجها، دون أن تراها مكتوبة بخطه «المميز»، نافية، بحسب «بوابة الأهرام الإلكترونية»، «أى معلومات لديها عن قصائد مجهولة لأمل، لم تنشر بعد». أزمة العيون الخضر الذكرى والقصيدة، والخلاف حولها، وديوان مؤجل لأمل اسمه «العيون الخضر»، وتصريح شقيق الشاعر بأن بحوزته أشعارا لأخيه تضاهى أعمال أمل الكاملة، يستعد لنشرها، يجددون خلافا عمره أكثر من عامين حول حق الورثة فى نشر ما لم يرغب أمل دنقل فى نشره فى حياته، وحق جمهور ونقاد الشعر فى تتبع التاريخ الشعرى لأمل، الذى اعتبر القاص الكبير يوسف إدريس أن ما بينه وبين المتنبى كان مسافة من الفراغ الشعرى لم يملأها غيره. وللخلاف حول نشر بواكير أمل الشعرية طرفان أصيلان هما عبلة الروينى وأنس دنقل، يفضل أولهما الاحتفاظ بسرية ما أسره أمل من قصائد طوال سنوات حياته لعدم رضائه عنه، فيما يفضل الطرف الثانى نشر كل ما قاله أمل تاركا الحكم لنقاد وعشاق الشعر، وخلف كل طر فريق من المؤيدين والمعارضين. لكن بالعودة إلى القصيدة الجديدة يوضح أنس دنقل ل«الشروق» أنها نشرت خارج مصر عام 1978، ضمن ديوان اسمه «أحاديث فى غرفة مغلقة» عن الشركة العامة للنشر والتوزيع والإعلام، بليبيا، وهو ديوان ضم إلى جانب «الشرطى السرى» مختارات منشورة لأمل دنقل، باستثناء هذه القصيدة التى «لم تنشر أو تقرأ داخل مصر أبدا». وطبقا لأنس فهذا الديوان مذكور فى «البيبليو جرافيا»، التى أعدتها عبلة الروينى عن أعمال أمل، ما يعد معه غامضا تشكيكها فى نسب القصيدة. وكان شقيق الشاعر تعاقد قبل أكثر من عام مع دار الشروق على طباعة الأعمال الكاملة لأمل، وصدرت بالفعل فى 443 صفحة العام الماضى، فيما تبقت لديه مجموعة القصائد غير المنشورة، التى تضم أعمال أمل المكتوبة فى نهاية الخمسينيات وبدايات الستينيات، قبل إصدار ديوانه الأول «البكاء بين يدى زرقاء اليمامة»، وهى القصائد التى كان أنس على وشك توقيع عقد نشرها مع إحدى الصحف الخاصة، لتنشرها على صفحاتها فى سبع حلقات، ثم تصدرها فى كتاب ضمن مطبوعاتها، ولكن تعطل ذلك بسبب اعتراض أرملة الشاعر. وفى حديثه ل«الشروق» أرجع أنس تعطيل عبلة نشر هذه القصائد إلى كون مجملها قصائد عاطفية مكتوبة فى امرأة أخرى، فيما تصر هى، بحسبه، على أن تظل المتحدثة الوحيدة باسمه، ونفى الرجل أن يكون ضعف المستوى الفنى سببا لرفض النشر، موضحا أن زمن كتابة هذه القصائد هو نفسه زمن كتابة قصيدته الشهيرة «كلمات سبارتاكوس الأخيرة» عام 1962، وأن الحكم الفنى على هذه القصائد لا يجب أن يكون له أو «للصحفية عبلة الرويني» وإنما لعشاق ونقاد الشعر. وكشف دنقل عن اتفاق قديم جرى بينه وبين الروينى على أن يخرج كل منهما ما بحوزته من أوراق أمل وتسليمها للناقد جابر عصفور، لكنها احتفظت بعدد من القصائد، سلمتها فيما بعد للشاعر رفعت سلام، كتب عنها دراسة مطولة، وكان المفترض أن تصدر القصائد والدراسة فى ديوان اسمه «العيون الخضر» عن إحدى الصحف الخليجية، لكن خلافا دب بين كل من عبلة ورفعت حول المقابل المادى لنشر لديوان، قبل أن يئول الديوان إليه عبر رفعت سلام. كراسات أمل بتحفظ أكثر روى الشاعر رفعت سلام ل«الشروق» قصة هذه المخطوطات قائلا: «إنها مجموعة من القصائد التى خطها أمل بيده، وجمع فيها قصائد بداية الستينيات دون شطب، أو حذف، وقد نشر عددا منها فى دواوينه الثلاثة الأولى، وتبقت قصائد أخرى لم تنشر». وأضاف أنه وفقا لاتفاق قديم مع أرملة الشاعر، كان المخطط أن يقوم بتحقيق ودراسة هذه القصائد تمهيدا لنشرها، لكن ذلك لم يحدث، فسلم هذه الأوراق ل«الصديق» أنس دنقل ليتصرف فيها وفق ما يراه. وعارض سلام أن يكون ضعف المستوى الفنى مانعا لنشر القصائد الأولى لدنقل، موضحا أنه قرأ هذا الكلام على لسان الروينى أكثر من مرة، ورده عليه أن ثقافتنا العربية تمتلئ، فيما يتعلق بالتراث الشعرى، بالكثير من الهراء، كما أنهم ينشرون فى الخارج لشعرائهم كل ما خطته أيديهم، وأنه يمتلك نسخة من الكراسات المدرسية الخاصة بكل من الشاعرين: «رامبو» و«بودلير» خلال المرحلتين الإعدادية والثانوية، محققين ومنشورين ضمن الأعمال الكاملة لكلا الشاعرين. أما بالنسبة لقصيدة «الشرطى السرى» محل الخلاف الجديد فقد أكد سلام أنها تنتمى لشعر أمل، استنادا إلى حقيقتين، أولاهما أن ناشر القصيدة هو شقيق الشاعر، والثانية هى تطابق السمات الفنية الشعرية لأمل على هذه القصيدة. وأوضح سلام قائلا: «هذه القصيدة تتوافق تماما مع سمات شعر أمل، بمعنى أننى حتى لو لم أعرف تاريخ كتابتها، يمكننى وضعها فى سياقها التاريخى من تجربة أمل الشعرية، وبالتالى فإن أى إنكار أو تشكيك فى هذا النص، بحسبه، هو كلام مرسل». بروفة القصيدة «إهداء للشرطى السرى/ الجالس فى زاوية المقهى/ فى نفس الكرسى/ أذناه مائدتان/ عيناه «مفكرتان» وفمه مطوى:؟! الشرطى السرى/ الآكل لحم أخيه/ كى يطعم منه زوجته وبنيه/ ويعود ليطبق فمه الدموى/ حتى لا يسقط منه فتات الخبز اليومى» هذه كلمات القصيدة، التى ما إن سمعها الأبنودى حتى جزم أنها لأمل دنقل، قائلا: «المطوى دى بتاعة أمل»، أذناه مائدتان دى أمل». وأضاف الأبنودى، زميل دراسة أمل وبلدياته، أن هذه القصيدة، لا شك، أحد بروفات قصائد أمل، التى يمكن لمس تجلياتها فى قصيدة «الكعكة الحجرية»، إذ كان يحاول فى هذه الفترة المزج بين ذاته الشاعرة، والأوضاع السياسية السائدة. وتابع قائلا: «لقد رددت كثيرا أنه كان من عادة أمل أن يكتب قصائده على رخام طاولات المقاهى، وعلى الجدران فى بيوت الأصدقاء، وأحيانا حين كانوا يعطونه قلما وورقة، كان يكتب القصائد ويتركها، فى بيوت أصدقائه». واستدرك: «ثم إن أنس هيكدب ليه؟»، مؤكدا أن الأخير مهتم جدا بجمع تراث أخيه، لكنه يأخذ عليه، نشره لقصائده البدائية الأولى، التى «كنا نتهجى فيها الشعر ونتلمسه». وأردف قائلا: «لو نشر أخ لى قصيدة من هذا النوع، وأنا على ما أنا عليه من درجات النضج، فإن هذا سيزعجنى»، لافتا إلى أن أمل لو كان يريد نشر هذه القصائد «وليست هذه القصيدة بالذات» لفعل، وأن كونهم لم ينشروها يعنى أن كل هذه المحاولات ما هى إلا بروفات لهم كشعراء فى المستقبل. وبالعودة إلى القصيدة الجديدة قال الأبنودى إنها، بالمقارنة بأشعار أمل، لا تحمل نفس سمات النضج الفنى التى تحملها أشعاره المتألقة «التى نعرفها»، ولذلك فهو لا يدرى ما إن كان يصح أن ننشر محاولات كتلك، دون سؤال أمل نفسه الذى رحل منذ وقت طويل، أم أنها مجرد تذكرة به «من أخ محب». مختلفا مع الأبنودى قال الناقد محمد بدوى إن للشعر لحظتين، أولهما لحظة أن يقرر الشاعر نشر قصائده فى حياته، وفى هذه الحالة يكون مسئولا عنها، والثانية لحظة أن يقرر التاريخ الأدبى تتبع آثار الشاعر، وهى اللحظة التى ليس من حق أحد أن يصادر عليه، بما فى ذلك ورثته أو أقربائه. وأضاف أن أمل دنقل بهذا المعنى ليس زوج عبلة الروينى، وإنما ملك للتراث الأدبى الذى يعد هو أحد علاماته، موضحا أنها كحارسة لتراثه، لا يجب أن تكون متشددة فى الإفراج عن أعماله. وتابع أن أمل بدوره كان «وسواسا» جدا، فيما يتعلق بأشعاره، وكان دائم الحذف والإضافة، بل وإعادة كتابة القصائد حتى بعد النشر. وتعليقا على القصيدة الأخيرة قال بدوى إنها فى الغالب لأمل دنقل، ليس فقط لأنها تشبه شعره، وإنما أيضا لموضوعها الذى كان متكررا، وشاغلا لأغلب شعراء هذا الجيل، كعنصر مزمن من عناصر الضغط والرقابة، التى قاسها أبناء حقب الخمسينيات والستينيات والسبعينيات. وأضاف أن أمل أيضا كان مهموما بهذا الأمر، من واقع تكرار جلوسه على المقاهى، والمراقبة، واصطياد عينيه لما يدور بالشارع، واكتظاظ المقاهى بشرطيين سريين، كالذى وصفته القصيدة، لذا فهو لا يستبعد أن تكون القصيدة لأمل، ولم ينشرها لارتيابه فى مستواها.