حضرتُ إلى القاهرة منذ عدة أيام للمشاركة في ندوة بمعرض القاهرة الدولي للكتاب، حول روايتي الأخيرة (هلْ أتاكَ حديثي؟!). وعلى الرغم من الجو الخانق سياسيّاً الذي تعيشه مصر تزامناً مع الذكرى الثانية لثورة يناير، فإن الشعب المصري لم يزل حريصاً على حضور فعاليات المعرض، والمشاركة برأيه في الندوات المقامة بمختلف المجالات. عندما خرجتُ من المطار في اتجاه الفندق الذي سأقيم فيه، تنقلت أنظاري في الشوارع، وفي وجوه الناس التي خلت من تعابير الفرح، واختفت البسمات التي تميّزت بها الشخصية المصرية. متحسرة على هذا الكم من التغيير الذي لحق بها، لاعنة السياسة بدهاليزها الملتوية التي لم تُخلّف وراءها سوى الدمار للشعوب المقهورة الآخذة في التدحرج، مثل كرة لهب تكبر يوماً بعد يوم. كنتُ من حين لآخر أسافر إلى القاهرة لحضور ذكرى المولد النبوي بالحسين، وأتجوّل فرحة بين أزقته الضيقة، وأستمع بفرح للتواشيح الدينيّة التي كانت تصدح في باحة منطقة الحسين، وتزدحم بالناس القادمين من مختلف الأقاليم. جاء هذا العام مختلفاً، حيث اختفت المشاهد الاحتفالية من المكان، وهذا يعود إلى نشر السلفيين فتوى تُحرّم هذه الاحتفالات، وأنها بدعة وضلالة، وفيها دعوة مبطنة للتصوّف! وخرجت ليلتها من منطقة الحسين متحسرة أجر أذيال الخيبة! أشياء كثيرة انقلبت في مصر مع وصول الإخوان المسلمين لكرسي السلطة في مصر. وبعد أن كانت لمصر الريادة أخذت تتراجع مكانتها يوماً بعد يوم بسبب الأنظمة الديكتاتورية التي تعاقبت عليها، منتهية بحكم "الإخوان" الذين لم يكتفوا المتاجرة بالدين، بل يسعون اليوم إلى تغيير أنظمة التعليم، والمطالبة بإلغاء اللغة الإنجليزية من المدارس الحكومية وتعريب الطب، كأننا أصبحنا في مقدمة الصفوف، ولم نعد بحاجة لإنجازات الغرب ولا للنهل من منابع حضارتهم! بلا شك أن الأنظمة القمعية التي حكمت عالمنا العربي وفي مقدمتها مصر، ساهمت في إخماد الروح الثورية لدى شعوبها. كما كان للسلطة الدينية دور في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي في محاربة النخب الثقافية والفكرية التي وصلت إلى حد الاغتيالات، وهو ما أدّى إلى تدجين العقول العربية أمداً ليس بالقصير! هناك جبهتان تقفان على النقيض اليوم! فمع اعتلاء الإسلاميين كراسي الحكم في بلد الثورات من جهة، وضعف جبهة الليبراليين من جهة أخرى في مواجهة المد الإسلامي نتيجة لتشرذمهم وخلافاتهم الداخلية، سطع نجم الإسلاميين، ووضعوا نصب أعينهم البقاء في حلقة الضوء، بعد أن عانوا طويلاً من الإقصاء، وجاؤوا ليحكموا بنظرة متعصبة تحمل في باطنها الرغبة في الثأر لا السعي إلى إصلاح أوطانهم! وعودة إلى مصر، يسألني الكثيرون، ما سر هذا الحب لمصر؟! لا يعرفون بأن مصر كيان كبير، وأن سقوطها وفشلها يعني الطلاق البائن مع كافة الثورات العربية التي لن تُخلّف سوى الانشقاقات وتقسيم أرض الثورات إلى دويلات ضعيفة ليس لها مقدرة على مواجهة أي عدوان خارجي يُصيبها! هناك مقالة جميلة قام بنشرها منذ ما يزيد على 63 عاماً الأديب الكبير (إحسان عبد القدوس)، ومن يقرأها يشعر كأنها كُتبت بالأمس، يتحدّث فيها عن الفساد المتفشي، مطلقاً أيامها على حكومة مصر بالسفيهة، متسائلاً متى ستُعلن الدولة المصرية إفلاسها؟! هل التاريخ يُعيد نفسه، وأن أوطاننا ما زالت تعيش في ظلمة الاستبداد؟! هل ما زلنا ندور في دائرة مغلقة تُعيدنا إلى نقطة الانطلاق نفسها؟! هل نحن شعوب لا تتعلم من أخطائها، أم أن الأنظمة العربية تآمرت دون شفقة على شعوبها حتّى تجعلها تعيش تحت طوعها؟! كلها تساؤلات حائرة أتمنى أن أجد لها إجابات وافية. ******************************* ***** (نقلا عن الاتحاد - الامارات)