الثورة والفساد: من يقضى على الآخر؟ قد يتبادر لذهن القراء أننى بصدد تكرار الحديث عن الثوار والفلول والجمعية التأسيسية وما إلى ذلك من أمر تحمل الكثير من الجدل ووجهات النظر المتعارضة، ولكن ما حثنى على كتابة هذا المقال هو شعورى بأننا بدأنا مجدداً فى إتباع نفس أساليب وحيل النظام البائد فى التعامل مع مشاكلنا الإقتصادية والإجتماعية والسياسية وهو ما أدى إلى أن نفقد بعض معالم الطريق، وأخشى أن يأتى يوماً نفقد فيه الطريق بأكمله. لذلك، سأركز مناقشتى على جوانب ألقى بها كحجر لتحريك المياه الراكدة فى المجتمع المصرى، وللخروج من معضلة نظام مبارك بأكمله، وطى هذه الصفحة إلى الأبد. أولاً - المقدمات تقود إلى النتائج: معضلة الخروج من ميراث نظام مبارك من الطبيعى – بل والبديهى - ان تشكل اى ثورة حالة من الرومانسية الوطنية، وذلك بأن يتوقع الجميع أن الثورة هى الحل الفورى لجميع المشاكل اليومية والمزمنة بشكل متزامن، ولا تثريب على المواطن العادى فى توقع هذا، بل يتعين عليه ذلك. وقد حدث تقصير هائل من جانب جميع المسئولين فى الحكومات المتعاقبة بعد الثورة والقائمين على إدارة البلاد فى مخاطبة حالة الرومانسية الثورية لدى المواطنين، بل وحملهم البعض مسئولية تدهور الاوضاع بدعوى عدم شعور المواطن العادى بالمسئولية، وهو خطأ جسيم فى إدارة الدولة يتحمله جميع من كانوا فى موقع المسئولية دون استثناء، كما تتحمله كافة القوى السياسية التى لم تستطع تجاوز أطماع السلطة وإنخرطت فى مواجهات ثم اتهامات متبادلة. لم تدرك كافة القوى السياسية كذلك أساسيات التعامل مع الفساد، ووقع الكثيرون - بحسن نية - أسرى للحقد الإجتماعى الناتج عن تفاوت مستويات الدخول، وأذكى تلك النيران الصديقة – وما زال - أشخاص محسوبون بشدة على نظام مبارك فكراً وعملاً وتوجهاً، ووجهوا النظر بعيداً عن مواطن الفساد. ومن ثم بات الحديث عن الفساد يقترن بوضع حد أدنى وأقصى للأجور وإسترداد الأموال المنهوبة وما إلى ذلك من أمور لاتتصل من قريب أو بعيد بمحاربة الفساد إلا برباط واهن وربما لاترتبط فى كثر من الأحيان. قد تكون كلماتى صادمة للكثيرين، أو لعلى أريدها كذلك. تشهد مصر حالياً مناقشات واحاديث حول تردى الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية بشكل ينذر بانهيار الدولة وتفسخ اوصالها، وهو الامر الذى يرتب عليه بكل أسف حالة من التوجس والقلق فى اوساط المستثمرين العاملين بمصر، وتراجع المستثمرين المتوقعين، فى الوقت الذى تعلن فيه الحكومة ورئيس الدولة عن الرغبة فى جذب مستثمرين جدد للسوق المصرى وتقديم كافة التسهيلات لهم وحمايتهم. يتزامن مع ذلك مطالبات وتصريحات غير دقيقة من عدد من المسئولين مما يمثل رسائل سلبية مفادها غياب رؤية شاملة لكيفية تحسين اداء الاقتصاد المصرى وانعكاسه على مجمل الاوضاع وبالتالى تعميق حالة الضبابية وعدم الاستقرار. كل ما سبق يجعلنى مقتنعاً بأن الجميع وقع أسيراً لأفكار نظام مبارك فى إدارة الدولة والذى كان يتعامل – بسوء نية – بمسكنات لشغل الرأى العام عن أسباب المشاكل وعوائق النمو. ثانياً - محاربة الفساد والإنطلاق الإقتصادى والتنمية الإجتماعى لابد فى البداية من الإعتراف بأن الفساد يعوق النمو الإقتصادى للدولة وانسياب فوائد النشاط الإقتصادى لكافة قطاعات المجتمعTrickle-down effect . فالفساد - بدون الدخول فى تعاريف أكاديمية - هو الحصول على منفعة أو إثراء بلاسبب على حساب المجتمع سواء من ناحية الموارد أو الكفاءة أو الفرص. لذلك، فمن الضرورى إلقاء الضوء على مفهوم الفساد ومحاربته من خلال عدة محاور على النحو التالى: - التعامل مع دورة حياة الفساد؛ تتطلب محاربة الفساد دراسة مواطنه والتعامل معها عبر مراحل (الوقاية – الرقابة – العقاب – التصحيح والعلاج) بما يسهم فعلياً فى تحقيق النتائج، ومن ثم ينبغى على الدولة التعامل مع مرحلة الوقاية والإستثمار فيها من الناحيتين التشريعية والمؤسسية، وذلك حتى يسهل عليها الرقابة والعقاب ثم التصحيح والعلاج. لذلك، يجب التعرف على مواطن الفساد والعمل على وأده فى مهده، وعدم الإنتظار لمرحلة العقاب وتشديد الأحكام القضائية، لأن كثيرا من الأفعال والممارسات يعجز القاضى عن تجريمها سواء لعدم وجود الأدلة أو ضعفها، أو لوجود ثغرات تشريعية بمواد التجريم ومن ثم لايفيد تشديد العقوبات لتحقيق الردع العام نظراً لضعف المرحلة الوقائية. وغنى عن البيان أن إتفاقية الأممالمتحدة لعام 2003 بشأن مكافحة الفساد تتعامل مع النتائج المترتبة على الممارسات غير المشروعة أى أنها بإيجاز تتصل بمرحلتى العقاب، والتصحيح والعلاج، ويتطلب تطبيقها خاصة بالنسبة للمصادرة وإسترداد الأموال شروطاً تتعلق بصدور أحكام القضائية تم خلالها مراعاة إجراءات نزاهة المحاكمات وحقوق الدفاع والإستناد إلى مواد تجريم فى التشريع الوطنى، الأمر الذى يقع خارج نطاق هذا المقال. - الأدوات؛ يستلزم إتباع إستراتيجية لمحاربة الفساد إتخاذ إجراءات مالية وإدارية وإقتصادية يصاحبها تشريع قوى ومتطور، وهو ما لايقتصر على هيئة الرقابة الإدارية والجهاز المركزى للمحاسبات كمنفذين والبرلمان كمشرع. بل أن الأداة الأساسية هى وجود خطة شاملة تتفاعل فيها عدة أبعاد بحيث لايستطيع الفساد المالى والإدارى والسياسى أن يلعب دوراً فى تكبيلها أو الإستفادة منها. - المتطلبات؛ تتطلب إستراتيجية محاربة الفساد وجود سياسة عامة للدولة، لاترتبط بإيديولوجية الحزب الحاكم فى أى وقت، وتكون مكوناتها الإقتصادية والإجتماعية والتعليمية عنصراً حاسماً فى تحقيق أهداف القضاء على الفساد. ثالثاً – مجال عمل الفساد ومحفزاته وحوافزه يمكننى القول بأن للفساد نطاق عمل طبيعى، حيث تفسد السمكة من رأسها، لهذا فإن نطاق الفساد ومجاله الحيوى لابد من تحديده على المستويين التاليين: 1- أجهزة الدولة والشركات التابعة لها؛ أحد أبرز مظاهر الفساد وعدم الكفاءة وإهدار الموارد يتمثل فى النظام المتبع للمشتروات الحكومية، وتكليف شركات قطاع الأعمال العام بمشروعات تفوق قدراتها وكفاءتها بدعوى حماية الصناعات الوطنية وليس موارد الدولة رغم أن الواقع يشهد بعكس ذلك، كما أن حماية موارد الدولة يقتضى الحصول على المنتج على سبيل المثال فى مشروعات البنية الأساسية والمنفعة العامة بأقل الأسعار وأعلى مستوى من الجودة والكفاءة، والحماية التى يمكن للدولة أن تسبغها لحماية المجتمع وموارده تتعلق بضوابط تتعلق بنسبة العمالة المصرية ومواقعها الإدارية والإلتزام بتدريبها وتطوير أدائها المهنى فى مراحل التنفيذ المختلفة. إن ماسبق، لايعنى التوجه نحو بيع القطاع العام والإتجاه نحو الخصخصة بشكل غير مدروس أو الهرولة بدون معايير صارمة وشفافة، ولكنه يعنى ضرورة العمل على إيجاد نوافذ نحو الإرتقاء بمستوى أداء وكفاءة الفاعلين المحليين، بما فى ذلك الشركات المملوكة للدولة، وفتح آفاق لقدوم إستثمارات أجنبية ضخمة. وفى المقابل، لابد أن يتم ضخ إستثمارات ضخمة ومركزة فى التعليم والتدريب المهنى بما يرفع من كفاءة وإنتاجية سوق العمل، وهو ما يجب أن يتم من خلال تحرير المشتروات الحكومية بدءً بالقطاعات الأكثر وزناً كقطاع المقاولات والإنشاءات، وقطاع النقل على إتساعه، بالتوازى مع خطة قومية للتدريب. بمعنى أدق، إستخدام وفورات الموارد المهدرة فى رفع كفاءة سوق العمل. 2- القطاع الخاص المرتبط بالإدارة السياسية؛ إستفاد بعض التجار ورجال الأعمال من نظام مبارك بشكل كبير، حيث حدث تزاوج بين الفساد وحماية التوسع الإقتصادى فى معظم القطاعات الإقتصادية، فترتب على ذلك عدة نتائج أبرزها: - إرتفاع تكلفة التجارة والإستثمار الأجنبى، بما إنعكس على كفاءة وأسعار المنتجات النهائية الأمر الذى تحمله المستهلك والمستفيد الأخير. - تراكم ثروات غير مبررة لدى فئة من التجار ورجال الأعمال، أثرت على إمكانية المنافسة فى السوق ورفع كفاءته، بما حجب إنسياب عوائد النشاط الإقتصادى. - إستفادة طائفة من المسئوليين الحكوميين من علاقات بتجار ورجال أعمال، عن طريق إصدار قرارات ولوائح وتشريعات لصالحهم بدعوى "تشجيع الإنتاج الوطنى"، مما شجع مسئولين آخرين للتهافت على هؤلاء من أجل الحصول على مزايا مماثلة. فإذا ما كان الأمر كذلك، فإننى أرى أن التخلص من أفكار نظام مبارك وممارساته يقتضى التوقف قليلاً أمام عناوين كبرى والتعامل معها بحسم وحزم وحلول جذرية، وذلك على المستوى أعلى من رسم السياسات وليس بالدخول إلى المستويات الدنيا والقضايا الفرعية التى تعد بمثابة النتائج. وأشير فى هذا الصدد إلى ما يلى: 1- الحاجة إلى تخلى الحكومة عن الفكر الجبائى؛ فليس من المتصور أن تأتى حكومة فى أعقاب ثورة لتنطلق من نفس الفكر الجبائى لنظام مبارك دون وضع تصور لتنمية إقتصادية شاملة، ناهيك عن خطورة ذلك التوجه من إغراق المجتمع فى ركود إقتصادى وزيادة معدلات البطالة والفقر. فالسياسات التوسعية وقت الأزمة أثبتت جدواها فى التغلب على حالات عدم الإستقرار بشرط التعرف على مواطن الفشل، وهناك من القطاعات كثيفة العمالة ما يستطيع إنعاش النمو الإقتصادى بخلق طلب داخلى فعال مثل المرافق العامة والبنية الأساسية، ومصادر التمويل لتلك القطاعات لاتقتصر على موارد الخزانة العامة. 2- ضرورة البدء فى مراجعة شاملة لنظام المشتروات الحكومية والإعلان عن ذلك فوراً؛ لأن النظام الحالى يمثل درعاً واقياً ضد محاربة الفساد، كما أنه يحرم المجتمع من موارد ومستوى كفاءة يمكن له أن يبلغه فى فترة زمنية ليست طويلة. وهنا، تبدو الحاجة للإعداد من أجل الإنضمام إلى إتفاقية المشتروات الحكومية بمنظمة التجارة العالمية، وتحرير متوازن لعدد من القطاعات الخدمية ذات الصلة بالتوزيع والتجزئة والنقل وإستصلاح الأراضى وما إلى ذلك من مجالات يشعر بها المواطن العادى مباشرة وتنعكس إيجابياً على أداء الإقتصاد الكلى. 3- إجراء تعديلات جوهرية على قانون المنافسة ومنع الممارسات الإحتكارية؛ وذلك من خلال مراجعة الأحكام الخاصة بالتنسيق وتقسيم الأسواق وإساءة إستخدام الوضع المسيطر وقواعد الإندماج والإستحواذ بناء على تجارب الدول الناجحة فى هذا المجال، مع إضافة أحكام تضع معايير موضوعية لدعم الدولة State Aid. وغنى عن البيان، أن مصر ملتزمة بتحديث تشريعاتها ذات الصلة وفقاً لإتفاقية المشاركة المصرية الأوروبية، ويتطلبها عقد إتفاقيات مماثلة لفتح أسواق الدول المتقدمة أمام المنتج المصرى، وحتى بصرف النظر عن ذلك فإن مجرد وجود قواعد مستقرة تتسم بالشفافية والعدالة سيكون له مردود إيجابى سريع على أداء الإقتصاد لإطمئنان السوق المحلى والإستثمار الأجنبى، ويحد من السلطة التقديرية للمسئولين الحكوميين - مهما بلغت مناصبهم – فى أن يقرروا مزايا لبعض التجار ورجال الأعمال دون سند حقيقى من الدراسة العلمية. فإذا ما تواكبت تلك الإجراءات الأساسية مع إجراءات فعالة نحو إقامة نظام للرعاية الصحية والإجتماعية، ومنظومة متطورة لحقوق الإنسان وإدارة سوق العمل، نكون قد بدأنا فعلياً مسيرة تحقيق أهداف الثورة، ولا أشك للحظة فى أن الشعب سيساند تلك الإجراءات لأنها مطلب لجميع فئات الشعب والتيارات السياسية. وفى النهاية، أحاول تقريب ما أقصده عن طريق إستخدام نموذج أو مفهوم التوازن (الين واليانج) Yin/Yang فعلى سبيل المثال ينظر الطب الصينى إلى الأعضاء والدم والسوائل بإعتبارها الين، بينما تمثل أعضاء الوظائف الحيوية كالتنفس والهضم اليانج Yang. لذلك فالمرض قد يكون بسبب النشاط المفرط للوظائف الحيوية لليانج أو لضعف الين (العوامل المهيئة). لذلك، فإن تشخيص المرض يجب أن ينطلق من تحديد أسبابه للعودة إلى نقطة التوازن من خلال العلاج، لأن الأمراض لاتعالج بالمسكنات وإنما بالتعامل مع مسبباتها. فإذا كان النشاط الإقتصادى والتنمية الإجتماعية كمطالب للثورة (عيش – حرية – عدالة إجتماعية – كرامة إنسانية) هى "اليانج"، فإن ضعف السياسات العامة وغياب الرؤية هى "الين" ولا أريد أن أحبط المسئولين الحاليين بأن أقول لهم أن ما يفعلونه هو محاولة لتخفيض "اليانج" بما قد يجعل قدرات الوطن تنهار فعلياً، لأن معظمهم لا يدرى أنه منساق وراء "بعض منهم بداعى الخبرة المزعومة" لمواصلة كارثة "الين" فى نظام مبارك والتى أدت إلى ثورة 25 يناير. قال الله تعالى فى كتابه الكريم: ﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا* وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ صدق الله العظيم