كلما أمعن أحدنا النظر في الواقع المخيف المخيم حالياً على الخريطة المصرية بطولها وعرضها ازداد قناعة بأن مصر تمضي معصوبة العينين إلى هوة سحيقة.. لم يعد للفوضى والاضطراب والصدام سقف يمكن استشرافه والزعم أنه أقصى ما تستطيع قريحة المخربين الوصول إليه، والتورط بالإهمال أو الضعف أو التخطيط الإجرامي تتداخل خطوطه وتذوب الفواصل فيه لدرجة يصعب معها تحديد المسئوليات بل التمييز بين الجناة والضحايا. مذبحة رفح التي أدمت قلوب المصريين ووجهت طعنة للكبرياء الوطني، دقت وبعنف ناقوس الخطر وأرسلت مع طوفان الحزن والأسى على الضحايا من المجندين البسطاء، شعوراً أشد وطأة هو الشعور بالاستباحة والاختراق والضعف وما يتبعه من الخوف وعدم الأمان.. يمكن لآلاف المبررات أن تساق وللجريمة النكراء أن تعلق في رقبة القتلة الذين ضغطوا الزناد ولكن هذا لن يجيب تلقائياً عن الأسئلة التي تؤرق كل مصرى زلزلته الفجيعة؛ هذه الدماء البريئة في رقبة من؟ من قتلوهم غيلة فقط؟ أم من تركوهم دون غطاء؟ وحالة الاسترخاء والتراخي التي كشفت عنها الكارثة من المسئول عنها؟ ومن الذي سمح بها في وقت يدرك فيه أي طفل أن ما تمر به البلاد يستدعي ومنذ زمن رفع حالة التأهب والاستنفار إلى أقصى درجة ممكنة.. فما بالنا بسيناء التي ترسل إلينا كل يوم بل كل ساعة برسالة تحذير ممهورة بالحرائق والمواجهات الدامية بأن الوضع فيها جد خطير؟ وقصة المعابر والأنفاق هذه أما لها من نهاية؟ وقبل النهاية أليس لها من قواعد تنظمها؟ هل أصبح تأمين الحدود وتنظيم الحركة عبرها تخصصًا نادرًا لا تملك مصر من يبرع فيه؟. أي اجتهاد أو محاولة للإجابة عن هذه الأسئلة بمعزل عن الوضع الملتبس في العلاقة بين المجلس العسكري والرئاسة أو قل بين المجلس وجماعة الإخوان سيكون نصيبه الفشل الذريع.. لابد أن نواجه الحقيقة المريرة، بل لابد أن يتصارح هذان الطرفان بحقيقة ما يحمله كل طرف حيال الآخر وأسبابه وسبل التغلب عليها وإلا سيظل كل طرف يتربص بالآخر بينما الوطن ينزف من كل موضع. فلا يمكننا مثلاً أن نستبعد أن التراخي والاسترخاء في التعامل مع تأمين سيناء قد- نقول «قد» لنفتح نافذة ضيقة ينفذ منها حسن الظن- يكون في إطار رسائل متبادلة بين الجيش الذي استفزته القرارات الرئاسية المتسرعة وغير المدروسة بفتح المعابر على مصراعيها أمام الأشقاء في غزة دون تأمين كافٍ ومعايير للمرور من تلك التي يطبقها أي بلد على حدوده، وبين الرئاسة والإخوان الذين لا يتوانون عن تذكرة المجلس العسكري بأن عليه أن ينفض يديه من اللعبة السياسية ويتفرغ لمهامه العسكرية. في اعتقاد كل منهما الآن أن كارثة رفح قد اثبتت سلامة موقفه، ولكن الحقيقة أنها كشفت عورات في الموقفين لن يسترها ما تمت المسارعة به من ردود أفعال تدخل في إطار فنون توظيف المأساة.. وإذا كانت القرارات الرئاسية العاجلة التي استثمرت المأساة لتغيير قيادات جهاز المخابرات وقوات الحرس الجمهوري وبعض الأجهزة الأمنية وطلب تغييرقائد الشرطة العسكرية لها مشروعيتها في ظل ماحدث، إلا أنها تقدم دليلاً جديداً يعمق الاحساس بأن أزمة الثقة والترصد والحرب الخفية تدخل كل يوم مرحلة أشرس وأخطر. وإذا كانت العمليات العسكرية التي تمشط سيناء الآن وتدك الأنفاق ومواقع ما يعتقد أنه بؤر للخلايا الإجرامية التي تسمي نفسها «الجهادية» قد لاقت قبولاً بين الكثيرين من المكلومين بالمأساة، فإنها جاءت مغموسة بملابسات وترتيبات شديدة الإيلام.. شخصياً أرهقتني التصريحات العلنية التي تزامنت معها وأكدت أنها وليدة تنسيق كامل وتعاون مشترك مع الجهات المخابراتية والعسكرية الإسرائيلية. ومنذ متى تتدخل اسرائيل في أمر ويصب في صالح الأمن المصري؟ حتى إذا صدق ما زعمه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، المتطاوس ( وله أن يتطاوس) بيقظة مخابراته وجهوزية قواته العسكرية والحدودية، عن أن الهدوء في سيناء مصلحة مشتركة للبلدين، فسيظل وللأبد أن ما يحقق مصلحة إسرائيلية يخصم بكل تأكيد من المصالح المصرية. وستظل الشكوك تحوم حول دور مشبوه لأجهزة هذه الدولة فيما جرى إما تحريضاً أو مباركةً أو غضاً للطرف لتحقيق أهداف أكبر من بينها زعزعة الثقة في قدرة الجيش المصري على الزود عن أراضيه. الآن فقط استطيع أن أصدق وأن أفهم المقولة التي ذكرها مساعدو الراحل عمر سليمان ليفسروا التدهور السريع في حالته الصحية الذي انتهى بوفاته المفاجئة.. قالوا إن الرجل أصابه الكمد والقهر بعد أن تأكد أن مخطط تدمير مصر قد بدأ ولن يتوقف. كان يتحدث ولاشك وفي مخيلته الشراك الذي ضٌرب من قبل على بلدان حولنا ولم يتركها إلا دولاً مقسمة محتلة.. وبدا أن الرجل بحكم موقعه وخبراته قد أيقن أن خيوط الشراك قد أخذت في الالتفاف حول عنق ومفاصل الدولة المصرية بغرض تكبيلها أو إغراقها في مستنقع الفوضى أو الزج بها في مواجهات تفت عضدها وتفتت نسيجها الداخلي أو كل ذلك معاً. من ساوره الشك في صدقية المقولة حينها، لابد أنه يعيد النظر الآن ويسمح للشك أن يتمدد في الاتجاه المضاد، ويدع سوءال: «ماذا إذا كان ما قاله الرجل صحيحا؟»، يشغل المساحة التي يستحقها في العقل والتفكير الفردى والجمعى.