لبيك اللهم لبيك، هذا ما يردده المسلم حاجًا لبيت الله الحرام، معلنا تلبيته للدعوة وانقياده للأمر والفريضة وإقامته والتزامه في رحاب البيت الذي يحج إليه و يزوره فرحا مؤمنا موقنا وسعيدا، متكلفا مشقة وعناء وثمن السفر والترحال إلى مكانه الجليل. ومثلما عند المسلمين تجد في كل الديانات وغير الديانات حجًا وتلبية ومشقة وعناء بإيمان وسعادة، وكذلك في السياسة والثورة والوطنية تلبية وحج. أما الحجاج موضوع هذا المقال فهم الحجاج لبيت السذاجة الكبير الذي يشيده لهم النظام الفاسد الماكر برعاية أمريكية صهيونية، بيت لا يمكن أبدا أن يكون بيتا لله ولا لمصر ولا الوطنية عامة، وبالتأكيد هو ليس بيتا للثورة أبدا، لكن من يحجون إليه أيضا ليسوا خونة ولا عملاء ولا انتهازيين - حتى يثبت العكس – إنما هم وبحماس يحسبون أنهم يحسنون صنعا في حين يجتهدون بإتقان في لعب دور كتبه وأخرجه لهم النظام الذي لم يسقط بعد. هذا هو حال الكثيرين منذ بداية الثورة المستمرة لإسقاط نظام لم يسقط بعد، ربما اختلفت الأسماء والصفات وأنواع السذاجة وأشكال الهجوم والدفاع ودرجات قسوة الصدمات لكن الجوهر في النهاية واحد وثابت؛ تسليم الثورة والثوار والبلد والشهداء والمصابين والمعتقلين والفقراء .. تسليم الجميع للنظام بحماسة وادعاء بأن هذا التسليم جزء أصيل من الثورة المصرية. هؤلاء الحجاج هم دائمًا من يتهمون أنفسهم بالسذاجة ولست أنا من يطلق عليهم هذا الوصف، فهو الوصف الذي يعتذرون به ويبرؤون أنفسهم من شبهة الخيانة والعمالة وخداع من وثقوا بهم، وهو الوصف الذي يعبرون به عن ندم وعن صدمة وخيبة أمل ... على سبيل المثال ما تتناقله الآن الصفحات والحسابات على "فيس بوك" من قول نسبته لهيثم أبو خليل القيادي السابق في الإخوان حيث قال:"كم كنت ساذجاً حتى البلاهة وأنا أدافع عن الدكتور محمد مرسي وعن استقلاليته وعن الأمل فيه والرهان عليه أمام شفيق وأن المنصب يصنع الزعماء ...إلخ. وبغض النظر عن مدى دقة الجملة المتواترة على صفحات ال"فيس بوك"، فإن ما أستدعيها بسببه هو إقرار الكثيرين منذ بداية الثورة واتهامهم لأنفسهم بالسذاجة لأنهم صدّقوا كاذبا أو آمنوا لخائن أو سلموا لسارق أو سامحوا قاتلا أو أدخلوا بيوتهم وثورتهم سافلا أو عميلا أو انتهازيا أو وضيعا ... إلخ بداية من التهليل لترك الميدان 11 فبراير، والتخلي عن القابضين على جمر الثورة، والذين سُحلوا وأُهينوا بداية من 12 فبراير ومرورا بالفض القذر للاعتصام يوم 9 مارس، وما تلاه من ممارسات طالما تكلم فيه الكثيرون وكان أقذرها وأفدحها هو كشوف العذرية، لكن السذج أغمضوا عينا، وأكملوا حجهم لبيت النظام بالعين الأخرى، وخرجوا على العالمين في وسائل الإعلام يؤكدون أن الثورة قد نجحت وأن العسكر حماة الثورة ... إلخ. ولا يفيق أشخاص مثل علاء الأسواني ونوارة نجم وبلال فضل وغيرهم إلا بعد شهور، ليكتب علاء الأسواني مقالا واضحا وصريحا يفند فيه كيف أننا أخطأنا خطأ كبيرا عندما تركنا ميادين الثورة في 11 فبراير، لكنه لم يفند ويحلل بما يكفي مسئولية السياسيين والمثقفين ونجوم الإعلام والفضائيات في التأثير في الناس وإيهامهم وإلهائهم لتفتر هممهم وعزائمهم تدريجيا استهدافا لانطفاء شعلة الثورة. ثم تأتي كارثة 8 أبريل، ويخرج في نقابة الصحفيين عمار على حسن، وجورج إسحق، وجمال فهمي، وعمرو حمزاوي ببيان صاغوه وتلوه على عجل في ظهيرة 9 أبريل، ويا للأسف كان البيان وما تلاه ومن تلاه اعتذارات وحج وتلبية للعسكر، استغفار للقاتل وإدانة وإهانة وبيع وإنكار للمقتول والمسحول من الأحرار الثوار. وعلى المنوال نفسه دارت مواسم حج السذج لبيت النظام في كل محطات النظام الفاسد لقتل الثورة والقضاء عليها؛ فهم من تهللوا بنزاهة الانتخابات التشريعية ونظروا زيفا ووهما لما سموه باطلا بعرس الديمقراطية، ثم انقسموا أعداءً في موسم حج الانتخابات الرئاسية ووجدنا بلال فضل "يردح" لكل من يتعرض لأبي الفتوح، ليتحول من داعم للثورة كما يدعي لمختصر الثورة في شخص أبي الفتوح، ووجدنا الأنصار جميعهم ووراءهم قطاع كبير من الشعب غارقين في لهو الدوري العام البديل، وبدلا من الأهلي والإسماعيلي والزمالك ... كان التراشق والصراع بين مشجعي أبي الفتوح وحمدين وعمرو موسى. ورغم أن الصدمة كانت قوية حيث لعب النهائي فريقان صعدا توا من قاع الدرجة الثانية لقمة الدرجة الأولى، فإن المثقفين والسياسيين الحجاج السذج ساهموا بكل صدق وأمانة في إلهاء الناس وإيهامهم بأن الدوري نزيه وأن الحكام منزهون ولا ينطقون عن الهوى. وأذكر قبيل الجولة الأولى للانتخابات حينما كان أبوالفتوح هو الفرس الإسلامي المتصدر لقائمة الإسلاميين عندما كتبت مقالا أفند فيه لماذا لن أنتخبه كم الشتائم التي انهالت علي، وبعدها مباشرة في مقال آخر بعنوان الثورة مستمرة برئيس أو ضد رئيس طرحت معادلة اختصارها كالتالي: " وبتضخيم فرص فل وإسلامي، لابد من تضخيم فرص ثوري، في محاولة لفضح مؤامرة الإعادة التي من شأنها اللعب على الخيار الدرامي الممثل للعقدة الكبرى: (فل أم إسلامي؟ فل أم ثوري؟) والثوري وقتها سيكون بالضرورة هو الإسلامي، لتجد نفسك أمام خيارين لا ثالث لهما، إما اختيار أبي الفتوح/(مرسي) مضطرا؛ كي لا ينجح شفيق أو موسى، أو مقاطعة الانتخابات والتشهير بفسادها وتزويرها حيث لا يجدي الندم". وبعد تأكد البعض من خطأ وسذاجة وبلاهة تصوراتهم وتنظيراتهم في دعم ومساندة من ادعوا أنه مرشح الثورة ومرشح الفقراء ومرشح الله في آن، ها هم يعودون من حجهم محملين بهدايا الاعتذارات والصدمات والاستغفارات يحاولون أن يعودوا لأمهم الثورة كما ولدتهم أول مرة، وهنيئا لهم بالإفاقة وهنيئا لنا بعودة الصادقين منهم، لكن ألا يتوقف هذا الحج الملعون لبيت النظام الفاسد الدنس، لن يتوقف متى لم نفق ونعِ خطورة هذا الحج الموسمي وتأثيره الخطير على الثورة، وجزء مهم من هذه الإفاقة تكون بفضح العائدين لأوراق اللعبة التي تم استدراجهم بها، كما اعترف يوما ممدوح حمزة أن سليم العوا هو من نقل إليه رغبة العسكر في فض الاعتصام فور تنحي المخلوع مقابل تنفيذ كل ما قامت الثورة لتحقيقه. وإن لم يقم الحجاج بمقاومة هذا الطقس الملعون فعلينا نحن مقاومتهم وتنبيه الناس لعدم الانسياق وراء أحد مهما يكن، ليس تشكيكًا في أحد إنما يقينا في المبادئ والمعايير الثورية الكبرى، الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.