أحاول منذ فترة أن اكتب، لكن لاشيء يأتينى، لا أفكار ولا مشاعر. مجرد ومضات تومض فى العقل حين أغسل الأطباق وحين أنتظر غلاية الماء لأعد الشاى أو حين أقود سيارتى. تأتى سريعا تضيء العقل بمفهوم أو كلمة ثم ينزل من بعدها الظلام مرة أخرى! حتى ما أحاول أن اتذكره من توافه الحياة اليومية أو جِسامهاأجده بعيد المنال أحياناً، فمحاولاتى للتذكر قد تبوء تماماً بالفشل لفترة طويلة كلما حاولت ان أصل لشيء أجدنى أصطدم فى عين خيالى بحائط أبيض لاخدش فيه ولا قلم مخطوط، وكأننى وليد جديد لايتذكر شيئاً من حياة العدم! "محتاجة فيتامينات على فكرة!" " دماغك شايل فوق طاقته، زى أى كمبيوتر المخ ممكن من كثرة المخزون يهنج!!" " دى أعراض إكتئاب!" " خالص إنتى رجعتى الشغل وفجأة الجهد بقى مضروب فى أربعة!" نظرت لهن جميعاً بيأس وحيرة. " إنتى محتاجة تغيير فى حياتك! تغيير كبير! إنتى لازم تدخنى! السجاير حتظبط دماغك وتنبهه وتخليكى منتبهة ومركزة" سمعت صوت صديقتى يغوينى، ورأيت بجانب عينى رأس الشيطان يطل من جانب الصورة. لكن لسبب ما قررت أن أطيعه هذه المرة. ربما كنت بحاجة لتغيير مثلما قالت الصديقة، لتجربة مختلفة، لتقليد أعمى وإختبار ما سيؤدى إليه من نتائج. بدت السيجارة كتجربة أهون من غيرها. مدت يدها فى حقيبتها وأخرجت علبة أنيقة ملساء للغاية لسجائر رفيعة وبرائحة النعناع، تخلو من صور المصابين بالسرطان كما تعودنا على باقى علب السجائر. اكتملت دعائم الغواية بشكل العلبة الجذاب، فلم اكن لأجرب سيجارة عليها عزرائيل شخصياً فاتحاً ذراعيه. وضعت العلبة أمامى وفوقها ولاعة لطيفة وكأنها تتحدانى. فتحت العلبة وسحبت أول سيجارة لى فى الحياة، أجربها فى منتصف الأربعينات!! وأشهدت بقية الصديقات انه فى اليوم الفلانى خضعت لغواية إبليس، لم يجبرنى لأنه لايجبر احد، ولم يسيطر علىّ لأن كيده ضعيف. كانت المشكلة الحقيقية أننى لآ أعرف ماذا أفعل بالسيجارة! وتعالت الضحكات " يعنى أسحب النفس، واخرجه؟" " آه..إسحبيه، خليه ثانية وخرجيه" " طيب ايه وجه الاستفادة؟ ده حتى بتحرق الزور" "هيء هيء هيء..مافيش استفادة، دى عادة" أنهيت السيجارة الأولى بمحاولات مختلفة من التعامل، واكتشفت أن السيجارة سخيفة للغاية، لكن بها روعة واحدة حقيقية. روعة التحدى! السيجارة للسيدة هى إعلان تحرر من قيد، إعلان ثورة على نظرة مجتمع ذكورى يرى ان التدخين حِكرعلى الرجال بينما تتنافى وتقاليد الأنوثة المتعارف عليها، الموضوعة من قِبل المجتمع. السيجارة هى رمز من رموز الرجولة، لإستقلال الولد عن أسرته، ولأن هذا شيء محمود لا ننزعج من رؤية الولد يدخن، بينما للبنت هى رمز للتمرد الذى قد يؤدى للإنحلال وهو شيء مذموم. لا أفهم من وضع هذه التصورات. كنت أفكر فى هذا وانا أدخن سيجارتى الثانية وأراقب نشوتى من ردود أفعال المارة حولنا فى النادى من دهشة سريعة وأحياناً قليل من شهوة عند البعض. فى طريق عودتى كنت قد فهمت الدوافع التى قد تحرك بعض النساء للتدخين، كنت قد تعلمت درساً جديداً فى العلاقات، وكان هذا المقال قد تبلور فى ذهنى. أطحت بعلبة السجائر من شباك السيارة فى أقرب صندوق للقمامة، لكننى شكرتها قبل ان أفعل لأنها دفعتنى للكتابة. المشهد .. لاسقف للحرية المشهد .. لاسقف للحرية