تنتهى إمتحانات منتصف العام فى بيتى أخيراً، يقف ذلك اللهاث الدائم مع الوقت والمادة العلمية، ذلك الصراع السفسطائى العقيم ما بين بقايا ما تربيت عليه من أهمية الجد والاجتهاد وجدوى القيام بالواجب لآخر لحظة وحتى أبعد مدى وبين ما يصدمنى كحقيقة يعيها الجيل الجديد أنه من الانتحار أن تفعل هذا مع نظام تعليمى فاشل لايعرف القائمون عليه شيئاً عما ينتجه فى النهاية من مسوخ بشرية تحفظ وتكرر مثل الببغوات ولا يتطور تفكيرها النقدى خطوة واحدة! أو ربما يعرفون! حين يفرغ الذهن مما يضغط عليه ويلهيه عما حوله يكون المرء فى خطر كبير، لأنه يصبح وقتها ملعباً خالياً أمام أفكار تبلغ خطورتها حد الكآبة.على سبيل المثال لا الحصر أتذكر بوضوح الآن ما كنت أشعر به فى هذا التوقيت من خمس سنوات بالتمام والكمال. كانت الثورة التونسية فى عزها، تبعث فى القلوب مشاعر غامضة ومختلطة من الخوف والفرحة والأمل السحرى الذى تحتار القلوب فى تصديقه أو تكذيبه. عن نفسى كنت قد يئست منذ شهور قبلها حين انتشرت الأخبار عن ترشيح جمال مبارك نفسه وكنا قد رأينا كيف تم توريث سوريا لبشار الأسد بسلاسة وكأننا نشاهد بروفة تمثيلية ممطوطة ونحن نحتسى شاى التموين الثقيل فى يوم مترب. وقتها كنت أفكر كثيراً فى صور عبور قناة السويس التى إنحفرت فى مخيلتى كطفلة دون الرابعة فى حرب 73. كنت أظبط نفسى أردد "عبور جديد" طوال الوقت وأنا أغسل الأطباق أو ألمع الزجاج او أقود سيارتى لأى غرض. ثم بدأنا نتابع الثورة التونسية على التليفزيون وتعلقت عيوننا بالثوار وهم يضمون قبضاتهم ويشهرونها فى وجوه العالم، لكننى لم أبادر بفعل شيء، كيف أفعل وقد إرتاحت أجنحتى فى منتصف العمر لفكرة أن السماء بعيدة، بعيدة للغاية وتوقفت عن الرفرفة؟ لكن فورة الحرية كانت لا تزال تسرى فى غيرى، وأفراخ صغيرة لم يشذب الخنوع ولا القبول أجنحتها قامت، طارت عن جد وكسرت أسقف الأحلام، خرقتها وفتحتها على سموات مفتوحة. هل عشت آمالا عريضة؟ هل بات للمعانى المجردة معانى من جديد؟ معانى مثل الحرية، التضحية، الحب، مصر.مصر..مصر؟ نعم! عقلى يعبر عبوراً سريعاً على كل ما بعد ذلك. كل المرات التى قلنا لا، وكل المرات التى قلنا نعم، كل المرات التى خرجنا فيها وكل المرات التى لم نخرج. كل المرات التى اختلفنا فيها مع أقرب الأقرباء وكان كل منا على حق. كل الدماء، كل الفوضى، كل الكذب وكل الصدق. لم أعد اريد أن أفهم شيئاً. المقصود من البداية أن نصبح بلا ذاكرة واضحة، أن تتعتم الرؤية أمامنا، وكلما قلت مقاومتنا كلما صار الأمر أسهل. لكن العقل الذى صار خالياً من هم الامتحانات يلعب بالصورة بوضوح ثانية. تظهر لى من خلف الأوانى، من سبت الغسيل، من قلب سجادة الصلاة، من هناك، من الأفق البعيد وقت الغروب بكلمة واحدة فقط تطير فى سماء مفتوحة: مصر..مصر..مصر. المشهد .. لاسقف للحرية المشهد .. لاسقف للحرية