بقلوب واجفة وأعين دامعة يخرجون ، يتلفتون ويرتعدون خوفا من أن تمتد يد لاقتيادهم إلى المجهول في اللحظة الأخيرة ، فإذا ما أقلعت الطائرات أو عبروا أسلاك الحدود تنفسوا الصعداء وذرفوا الدمع السخين على فراق الوطن يقول كل منهم : والله لولا أخرجوني منك ماخرجت. آخرون يبيعون بيوتهم وأملاكهم ، الجدران التي تربوا في أحضانها أو بنوها لبنة لبنة من عرقهم وكدهم واغترابهم ، خوفا من فرض الحراسة أو المصادرة . إلى هذا الحد يفقد الناس ثقتهم بالوطن ، ثقتهم بالعدل والرشد ، مهاجرين إلى بلاد الله الواسعة حتى يناموا مطمئنين لا يخشون زائر فجر ولا رصاصة في مظاهرة ، ولا ذريعة للفصل من العمل ، ولا هوى مرشد أو مخبر شرطة يمكن أن يذهب تقريره بأي أحد إلى ماوراء الشمس. ما الذي جرى ؟ ومنذ متى كانت مصر تبدي هذا الوجه اللكئيب المتجهم والظالم لأبنائها ؟ منذ متى تخلت مصر السمحاء عن سماحتها ، وفرقت بين أبنائها على أساس رؤاهم السياسية؟ أظن أن ما يجري الآن لم يحدث إلا مرة واحدة على امتداد القرن الماضي ، حين أخذت الحركة الصهيونية تدبر المؤامرات وتحيك الخطط والدسائس سعيا لإفراغ مصر من يهودها الذين عاشوا فيها طوال التاريخ ، من أجل الحصول على ثرواتهم وعقولهم ومهاراتهم لتضح في شرايين الدولة السرطانية التي أنشئت ، وتحرم مصر من قطاع مهم من أبنائها. المئات باعوا أملاكهم حتى هذه اللحظة والآلاف خرجوا يبحثون عن وطن آمن لهم ، لم يتحول الأمر بعد إلى ظاهرة ملفتة للنظر لكنه في الطريق إلى ذلك – مالم تنتبه السلطة إلى أنها ترتكب جريمة بحق هذا الوطن . يمكننا أن نختلف وتتصادم رؤانا السياسية حول طريقة الحكم ، لكن أن تدفع ممارسات فريق – مهما كان كبيرا ويمثل غالبية – فريقا آخر مهما كان صغيرا ، إلى الهجرة والفرار ، تاركا الأهل والأحبة ، ذكريات الصبا ومرتع الشباب وثرى النهاية ، فذلك أمر شديد القسوة ومفرغ من الإنسانية . يضاعف من القسوة واللا إنسانية ألا يفعل الإنسان ذلك طائعا مختارا ، بل مكرها ومضطرا. لا يعرف ألم الاغتراب إلا من اغترب ، فالأفكار النظرية تظل شيئا مختلفا اختلافا جذريا عن معايشته . فأن تفكر في الموت ليس كأن تموت. هؤلاء الذين يفرون بأنفسهم من قسوة السلطة مخافة تغولها عليهم ليسوا يدا عاملة بسيطة ، وإنما في مجملهم خبرات وكفاءات ، وهم ليسوا اناسا عاديين من حزب الكنبة ، وإنما يمثلون كفاءات وعقول ومهمة ونخبة سياسية ذات وزن غيابها يضر بالمجتمع ويفقر وعيه الوطنى. عبقرية مصر في تنوعها ومحاولة فرض رأي سياسي واحد ، ولون واحد يسطح الحياة ويقتل العافية . قوس قزح يستمد بهجته من كونه سبعة ألوان تتمازج وتتجانس وتهب معنى للحياة والجمال. لا تقتلوا مصر ، فلا فائدة من أن يحكم الحاكم جثة هامدة ، لا حراك فيها. المشهد .. درة الحرية المشهد .. درة الحرية