مراراً وتكراراً يتردد اسم رواية بعينها أمامها ويرشحها لها أصدقاؤها المقربون لقراءتها من فرط روعتها وجمال أسلوبها العميق... كانت هذه هى رواية " قواعد العشق الأربعون " التى تسرد تفاصيل رحلة التلاحم الروحى التى عاشها كل من العالم والشاعر الاسلامى الروحى "جلال الدين الرومى" والدرويش الصوفى الجامح "شمس الدين التبريزى" وعشقهما الفريد للذات الالهية. لكنها طيلة الوقت مُثقَلة بالأعباء والإلتزامات والهموم أيضاً ، ولم تَكن تجد الفرصة كى تنفرد برواية كهذه مع ذاتها المتناثرة كالشظايا اليتيمة فى كل صوب. تمر الأيام وتزداد أمورها تعقيداً وتتراكم الأحزان كالتلال فوق ذاتها المتهاوية إلى أن تُبقيها قيد الإقامة الأطول من نوعها بالمشفى لترعى والدتها المريضة وهى فى أسوأ مراحل مرضها العضال .. ينهشها اليأس ويقضم أطراف إرادتها، وتتحسس ملاك الموت يطوف كل ليلة بأرجاء المكان، وكانت تتمنِ على الله أن يُخطِىء (عزرائيل) فى كل طواف غرفة والدتها. بدت الليال طويلة.. باردة ومُجهِدة ، فهى لا تأتِ بجديد فى حالة والدتها المسكينة ، بل تعرضت من حين إلى أخر إلى تدهور مزعج.. وكان القدر قد أهداها رفقة سيدة رائعة فى أول ليلة بإقامتها بالمشفى.. كانت وقورة، تمتلك روحاً مميزة تحبو على أول طريق الجهاد فى سبيل قهر هذا المرض اللعين.. تتلقى جرعتها الكيميائية بصبر وسكينة.. كانا قد تبادلا الأحاديث العميقة فيما بينهما ونشأت بينهما صداقة عجيبة وتناغم روحى مذهل، وامتد ذلك الشعور تلقائياً إلى ابنتها، وصارا صديقتين حميمتين رغم عدم التقائهما قط ، لكن الهواتف الذكية تخلق عوالماً إفتراضية مذهلة. تحسست معاناتها عن بعد واقتربت من تعاستها دون أن تعرف ما السر وراء هذا الاندماج الخفى بين روحيهما، ربما الظروف المشتركة والروح المتوافقة والفكر المتعانق.. وراحت توآزرها دوماً بكلمات عميقة تبدد مخاوفها وتمنحها الثقة فى الله وفى أقدار والدتها المحتضرة .. قامت معها بدور معالج نفسى مخضرم لَمَس مكامن وجعها بجدارة وراح يضمدها ويطهرها من قيح سوء الظن والزعزعة والتوجس.. وإذا بهدية تُرسلها لها مع والدها أثناء تواجد والدتها بالمشفى فى الأسبوع التالى لاستكمال جرعتها العلاجية .. إنها رواية ( قواعد العشق الأربعون ).. ، جاءتها هرولة .. سعت إليها وفى توقيت عجيب، واتضح لها فيما بعد أنه توقيت مثالى تحدد بعناية روحانية. عندما تلقت " الرواية " المُهداه عزمت أن تطعن بها فراغها وسويعاتها الطويلة التى كانت تكرسها لمراقبة أنفاس والدتها المتقطعة .. فكم هزمها الوقت واشعرها بأنه يُهشِم رأسها وهى دائماً فى انتظار الأسواء.. تشرع فى القراءة، وخُيِل إليها أن عدد صفحات الرواية الخمسمائة قد تحتاج الى شهرين على الاقل حتى تفرغ منها لا أربعة أيام فحسب كما حدث .. أربعة أيام كانوا بالنسبة لها أقرب إلى الخلوة الروحية ، وتقمصت ذات الخلوة التى التى قضاها كل من (شمس التبريزى والرومى) أثناء رحلتهما الداخلية الى الذات الالهية، وكأنها كانت تتلصص عليهم من بين السطور وتسترق لحظاتهم الذهبية خلسة أو بالأحرى تستعيرها. أربعة أيام تلقت خلالها رسالة من ربها مفادها أنه يمكث إلى جوارها ولا يغضب من عتابها .. أربعة أيام غيروا مسار تفكيرها، ومنحوها الطمأنينة التى عجز كل المقربين عن بثها إياها، حتى عقاقيرها المهدئة فشلت فى ذات المهمة التى أنجزتها ببراعة تلك الرواية الساحرة النافذة إلى أعماقها. وبعد أن أنهت قراءتها جلست مع ذاتها تتمتم قائلة : " قبل أن تصلنى هذه الرواية بيوم واحد كنت قد عاهدت الله أن التزم بصلاتى فى مواقيتها وأعاود قراءتى العميقة للقرآن الكريم والدعاء من قلب يثق فى تلبية نجواه " ... فكم من الوقت أهدَرَت فى هجرها طرق أبواب الرجاء، وهروبها من نفسها إلى حجيم هواجسها حول المستقبل الذى نظرت إليه بعين لا تلتقط فى كل مرة سوى الجانب المظلم من الأشياء. كانت سعيدة بعودتها الى رشدها وإنحلال أصفادها، بل واستسلامها التام للمشيئة الإلهية دون اعتراض أو حزن. كانت تنظر الى امها وتقول: " لابد أن أليق بمرافقتها والدعاء لها فى محنتها بقلب تائب مستغفر، حتى يظللنى الله برحمته وسكينته ، فأقبل ما لا أطق ولا اتحمل ... ليس هناك سبيل أخر سوى الهروب إليه" لكنها جلست تتأمل وتتفكر فى كواليس وصول هذه الرواية إليها .. هدية مباغتة من صديقة لم ترها قط وفى مسرح أحداث مضطرب .. وتبين لها أن الأمر برمته بمثابة (رسالة) ، بل (وحى) أو هكذا بصرها قلبها .. فكيف لصديقتها الروحية أن تقراء فى أيام قلائل طالعها بمثل هذه الشفافية ، وأن تنفذ إلى حافظة تعاستها وقلبها المتعثر وسط رُكام الاحزان بهذه السرعة ، بل واستشعار علاقتها المضطربة بربها التى يشوبها العتاب غير المعلن واحساسها المختنق برفض كل ما ألم بها وبأسرتها من كبوات لم يسعها استيعاب العِبرة منها. فقد جاءتها الاشارة التى أرسلها الله لها مُعلناً قبوله وغفرانه ، فإذا بحبله يتدلى لها من السماء كى تتشبث فلا تسقط فى براثن وساوس شيطانها .. فأخذت تُجَدِف بمجاديفها حديثة العهد بين (قواعد العشق الأربعين) ، وتهللت ذاتها الذابلة بين ربوعها الخضراء النضرة.. راحت تضع علاماتها المحفورة على العبارات الذهبية التى زلزلت وجدانها وانتابها شعور بأن الله معها فى الغرفة، يباركها ويعضدها ويقذف بقلبها سكينة لها العجب وسط أجواء الموت الصاخبة التى تحاصرها ووالدتها بذلك المكان. وبعد أن فرغت من الرواية، ألقت نظراتها الشاكرة الممتنة نحو ذلك المرجع الروحى الذى آتاها هدية من الله مع رسول ظهر لها فى الوقت المناسب ... ترياق مخبأ بالصفحات جعلها تعود إلى صوابها.. وتجد طريقها الذى انحرفت عنه ، إذ أراد الله بها خيراً حين منحها البلاء والترياق فى آن واحد كى تنصهر وتصبح أكثر صلادة وتبلغ اليقين فلا يتزحزح أو يبرحها مهما تكالبت عليها المآسى، فقد سمعت ورأت واشتمت رائحة العون الألهى، فلم تعد تأبى شيئاً، وتبخرت كل مخاوفها وذابت مع المشيئة . صارت تواجه عالم ظنونها من داخل تلك الغرفة التى أتاحت لها مواقيتاً فضفاضة للعبادة المشهد .. درة الحرية المشهد .. درة الحرية