جمعتنى بالدكتورة مايسة صداقة من نوع خاص ، فلم نكن نتبادل الزيارات أو المكالمات بصفة منتظمة، كانت بحكم عملها كطبيبة مشغولة دائما بين المستشفى صباحا والعيادة مساء ، فلا تكاد تجد وقتا كافيا للمجاملات التقليدية. كانت تكبرنى بسنوات لا تسمح لى أن أناديها بإسمها مجردا رغم انها كانت تلح على أن أفعل إلا ان حيائى منعنى، كان أكثر ما لفت إنتباهى فى علاقتى بها أنها كانت رغم مكانتها وسنها لا تترفع أن تقصدنى كلما أهمها أمر ، فتأخذ مشورتى أو تكتفى بالفضفضة إلى دون أن تنتظر حلا منى. جاءتنى مكالمتها الأخيرة وهى تحمل هموما ثقالا، كانت نبرات صوتها حزينة مختنقة بالعبرات، يتهدج صوتها وتتسارع أنفاسها من حين لآخر ، كانت الكآبة تملأ كل حروف كلماتها لتعبر عن حزن عميق ورغم ذلك كانت تضيق بها تلك الحروف فلا تسعفها، و تكاد تلهث للبحث عن مفردات تليق بحجم حيرتها و شدة ألمها. علمت منها أن لها صديقة تدعى وفاء، تكن لها الدكتورة حبا وإحتراما شديدين ، زارتها فجأة ، رحبت بها مايسة كثيرا ، فقد إنقضت فترة طويلة على آخر زيارة لها و راحت تعاتبها بشدة على إنشغالها عنها ، فما كان من الأخيرة إلا أن إعتذرت بأدب ثم قالت وهى تبتسم : جئت لأودعك، سألتها مايسة بإهتمام : إلى أين؟ أجابت وفاء ببساطة شديدة : بينما إبتسامتها ما تزال تملأ وجهها : إلى الله ، ضحكت مايسة وهى تقول : إذن خذينى معك، ثم تساءلت بجدية : حقيقى إلى أين العزم يا وفاء ؟ هل سترحلين عن مصر أم هى رحلة بالداخل؟ أجابت وفاء بثقة : بل رحلة بلا عودة، سنقطعها جميعا وقد إقترب ولله الحمد دورى فى الرحيل، راحلة لأقابل وجها كريما وما أجملها من رحلة!! جاءت إجابة وفاء صادمة رغم أنها لم تفقد إبتسامتها. لم تصدق مايسة فى البداية إلا أن الأخيرة اخبرتها بإقتضاب ،أنها مريضة بداء لا يرجى برؤه ، وأكد لها الاطباء أن المسألة مسألة شهور وربما أقل. و بينما كانت مايسة تستمع إليها فى ذهول، طلبت منها تقاريرها الطبية لتطلع عليها، إلا أن وفاء ضحكت بإشفاق قائلة : لا عليك، هو موعد مع الإله لن نخلفه ، وعلينا أن نحسن إستقباله ، قضى الأمر وما جئت إلا للسلام، ثم قامت مودعة لتحتضنها بحرارة وهى تهمس إليها: ألتقيك فى جنة الرحمن. كانت مايسة تحكى لى بذهول وقد راحت تبكى بحرقة ، قالت لى : ما زلت إلى الآن أشعر أنها تتحدث عن شخص آخر ، كيف لإنسان أن يتحمل مثل هذا العبء!! ما هذا الثبات والتفاؤل والثقة فى الله! ! ماذا بينها وبين ربها؟ ثم أجهشت فى البكاء وهى تقول: كم أوجعت قلبى يا وفاء ، سأفتقدك أيتها الغالية. غلبنى البكاء أنا الأخرى وطيبت خاطرها وأنا أحاول جاهدة أن أنهى المكالمة بإبتسامة ولو مصطنعة ، على وعد منى أن أتصل لأطمئن عليها لاحقا. إنقضت أيام بل و شهور ونسيت أمر مايسة تماما. كنا قد إقتربنا من عيد الأضحى عندما تلقيت مكالمة من أحد معارفنا وإذا به يخبرنى بما زلزل كيانى وأصابنى بصدمة عنيفة أفقدتنى إتزانى ، أخبرنى أن مايسة قد ماتت .... نعم هى ليس سواها ، ماتت دون أن أواسيها فى حزنها على صديقتها، ماتت دون أن أودعها كما ودعت هى صديقتها ، تذكرت طلبها التلقائى الذى طلبته من صديقتها دون أن تقصد : خذينى معك يا وفاء .... هل فكرت فى لحظة أن تلك الكلمة الهزلية ستتحول إلى حقيقة بهذه السرعة؟ ماتت دون أن أسألها كيف إستعدت لإستقبال ذلك الزائر الثقيل؟ تركتنى وفى عقلى علامات إستفهام لا حصر لها عحزت قدرات عقلى المحدودة عن الإجابة عليها .... كيف كان موتها؟ لقد انخلع قلبها خوفا على صديقتها ، فما بالها والأمر يخصها؟ فى المساء ذهبت إلى بيتها ، كنت أبحث بعينين زائغتين عن مايسة فى أرجاء فيلتها الفسيحة ، لم أكن قد إستوعبت بعد خبر موتها المفاجئ، فلعلى فهمت الأمر خطأ خاصة وأنها لم تتصل بى لتسر إلى بهمها كعادتها ، ربما من أخبرنى بموتها كان يقصد شخصية أخرى ، إلا أن ظهور إبنتها قادمة إلى وقد إكتسى وجهها بالحزن والأسى قد أزال بداخلى أى بارقة أمل. ورغم إستغراقى فى الحزن والبكاء ، إلا أن حقائبا للسفر كانت معدة بجوار مدفأة ضخمة فى بهو البيت لفتت نظرى بشدة، كانت مجموعة من الحقائب قد تراصت بشكل منظم ، إستنتجت أن بها أغراضا تخص مايسة قد عقدوا العزم على التخلص منها، و على ما يبدو أن الفتاة قد لاحظت نظراتى الحزينة إلى تلك الحقائب فأخبرتنى أنهم على سفر ، ثم حكت لى عن سر هذا السفر وإذا بها تفجر المفاجأة. شعرت مايسة منذ فترة بآلام خفيفة فذهبت لعمل أشعة لتشخيص حالتها ، و هنا بدأ الكابوس، كشفت الأشعة عن وجود ورما خبيثا فى الكبد وفى مرحلة متقدمة أيضا. لعل السؤال المنطقى الذى ثار فى عقلى لحظتها هو كيف واجهت مايسة ذلك الأمر لا سيما وقد كانت مذهولة من موقف صديقتها؟ إلا أن الإجابة جاءت على عكس توقعاتى تماما ، لقد فاقت صديقتها فى الثبات والشجاعة ، رفضت مايسة أن تضيع أيامها القليلة المتبقية من رصيدها فى الحياة فى القيام بسفرة غير مضمونة العواقب لإجراء عملية زرع كبد ، فهى طبيبة وتعلم جيدا أن نسبة النجاح فى مثل حالتها متدنية للغاية ، فإختارت سفرا آخر رأته الأجدى والأنفع لحالتها على المدى البعيد، أو على الأصح على المدى اللانهائى ، إختارت أن تسافر مع أسرتها لآداء فريضة الحج للمرة الثانية فى عمرها القصير، إختارت أن تقابل الله بريئة كيوم ولدتها أمها ، إلا أن الأيام لم تمهلها ، فقد إختار لها الله أن يريح جسدها المنهك من مشاق هذه الرحلة ليحتسب لها الأجر بإذن الله كاملا غير منقوص دون أن يشق عليها. لم تكن حزينة كما توهمت، كانت تترقب لقاء الله بشوق وطمع فى رحمته، أوصت ألا يقام لها عزاء، إذ كيف تتلقى أسرتها العزاء فى يوم فرحها؟ وشددت على بناتها ألا يرتدين الأسود فهو على حد وصفها لا يليق بمناسبة كتلك. ماتت قبل موعد سفرها بيومين لترحل الأسرة إلى هناك بدونها ، ولتلقى فى القلب حزنا وعظة. لا أقصد بالطبع من وراء هذه القصة أن أشق عليكم ، أو أثير أحزانكم أو أستدر دموعكم لا سمح الله ، وإنما كتبتها لأحمل إليكم الوجه الآخر من القصة ، فأروع ما خرجت به من تلك الأحداث أن بين أيدينا كنزا إسمه الوقت يتيح لنا الإنابة والرجوع إلى الله ، يتمنى غيرنا إقتطاع دقائق منه لإصلاح أمر دنياه وآخرته ، تعلمت أيضا عمليا أن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها وحقا صدق الله العظيم، لقد شق على مايسة أن تستوعب وضع صديقتها وردة فعلها ، وإذا بها تخوض نفس التجربة وتمر بذات المراحل ، لقد إحتملت ما رأته صعبا أو بالأحرى مستحيلا ، وكأن الله قد أرسل إليها تلك السيدة ليعلمها كيف يكون الصبر وكيف تشعر بلذة الإحتساب ، وكيف تتذوق حلاوة اليقين والإيمان وما أجملها من حلاوة ، تعلمت كيف أتلقى رسالات ربى سبحانه ، فلا شئ عنده متروك للصدفة وكل شئ عنده بمقدار ، أما أروع ما تعلمته فهو أن أحب لقاء الله كى يحب لقائى. اللهم إرزقنا الشوق إلى لقائك من غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة.