لا أقصد أن أعود إلى كوميديا المهندس وشويكار على غرار الفيل في المنديل والأكس في التاكس- بافتراض إني فاهم إيه الأكس ده- لكني أقصد التاريخ الذي تسرده ديباجة الدستور المصري، فالمعلوم عن التاريخ بالضرورة أنه من المحال تغييره، حتى وإن تم تلوينه. احتوت ديباجة الدستور على 792 كلمة، أي تقريباً ضعف ديباجة الدستور السابق عليه، وبدأت بالحديث عن جغرافية مصر، ثم تاريخها، وصولاً إلى (25يناير-30 يونيو)، وانتهاء بعبارات إنشائية عن النهوض والمستقبل. كلما قرأت الديباجة ازداد عدم فهمي للهدف منها ومن الإسهاب الذي يعتريها. الديباجة هي الوجه الحسن أو الاستهلال أو المقدمة، والمفترض أن تحدد بشكل مباشر أهداف الدستور والحكم في الدولة، ولذا تجد أن مقدمة الدستور الأمريكي فقرة واحدة من 52 كلمة، و مقدمة الدستور الهندي 85 كلمة، والفرنسي فقرتان من 84 كلمة. أما الديباجة المصرية فتحولت من مجرد مقدمة إلى سرد لا تفهم من أين أتي ولا إلى أي شيئ ينتهي. الدستور هو أهم وثيقة سياسية في أي نظام، ولذا يجب أن يكون محدد الألفاظ والعبارات والمعلومات أيضاً، لكن الديباجة لم تكن كذلك في أجزاء منها، و تعاملت مع التاريخ باعتباره وجهة نظر! فتقرر أن "مصرَ مهدُ الدين" رغم أن أبانا آدم جاء إلى الأرض بالدين، لكن لم يقل أحدٌ إن مهبطه كان مصر، وتفخر الديباجة أن الرسالة تنزِلت على سيدنا موسى في طور سينين، لكنها لم تأت على ذكر أنه خرج من مصر مرة مهدداً وأخرى مطارداً ومن بعدها لم يعد. ثم تقرر الديباجة أن المصريين احتضنوا السيدة العذراء ووليدها، بالرغم من أن العهد الجديد لم يذكر أية تفاصيل عن إقامة العائلة المقدسة في مصر هربا من طغيان هيرود. الديباجة ترى أيضاً أننا بعد اعتناق الإسلام صرنا "خير أجناد الأرض جهاداً" وهو أمر جدلي وليس حقيقة مسلماً بها، حتى النص الديني الشهير الذي بنيت عليه العبارة هو حديث ضعفه كثيرون. وبعد سردٍ للتاريخ القديم تقرر الديباجة أن "مصر وطن نعيش فيه ويعيش فينا" دون ذكر البابا شنودة قائل هذه العبارة المأثورة؛ أي إن دستور مصر اقترف خطأ الاقتباس دون ذكر المصدر (في أوروبا والدول المتقدمة يسمى ذلك سرقة أدبية)! ما علينا. الديباجة تحدد عبد الناصر قائداً ليوليو 52، رغم أنه في 52 كان نجيب هو القائد المعلن! وذكرت أن التلاحم بين الجيش والشعب دحر العدوان الثلاثي، رغم أن الجيش كان قد انسحب وأن سيناء ومنطقة القناة احتلتا، ولم يخرج العدو إلا بعد التدخل الأمريكي الروسي!
كذلك أفتت الديباجة أن العالم "يوشك أن يطوى الصفحات الأخيرة من العصر الذى مزقته صراعات المصالح" ولا أفهم متى وكيف اقترب العالم من ذلك! مجرد رأي فضفاض ليس مكانه الدستور أو حتى المقالات السياسية المنضبطة. أما الاسم الذي اختارته الديباجة لما حدث منذ الإطاحة بمبارك فهو "ثورة 25 يناير-30 يونيو" وفي الحقيقة لم أعثر على أي مصدر أو مرجع استخدم هذه التسمية من قبل أو من بعد، كما أنني لم أجد تلك الثورة في أي قائمة تتحدث عن الثورات الكبري أو حتى المهمة في تاريخ البشرية كما جاء في الديباجة. اللافت للنظر في تاريخنا المعاصر أن الثورات مسماة حسب تاريخ اليوم: 23 يوليو؛ 25 يناير؛ 30 يونيو، وهي تسميات قاصرة على منطقتنا فيما أعلم، مثل "ثورة" الفاتح من سبتمبر في ليبيا. هل الثورة يوم؟ أم كفاح شعبي متصل يؤدي إلى تغيير نظام الحكم، وليس مجرد الحاكم؟ هل ثوراتنا ثورات أم مجرد فورات؟ أم أنها قصيرة النَفَس والنَظر؟ الشاهد أننا نكتب التاريخ بطريقتنا، وأحيانا نلغيه، مثلما كانوا يطمسون صورة الملك التي تظهر في أفلام ما قبل يوليو 52، كأن الملك لم يكن موجوداً، أو كأن التاريخ لم يبدأ إلا مع عهد الضباط الأحرار! "الواقعة مقدسة والرأي حر" في كتابة التاريخ، أما أن تحكى الواقعة حسب الرأي فذاك من باب تزييف الوعي، وقتل القدرة على التفكير السليم ومن ثم الاختيار السليم. أخطر ما يمكن أن يحيق بثقافة أي أمة أن يكتب تاريخها الشعراء، وأن يكتب أشعارها المبتذلون، وأن يلي أمرها الإعلاميون. كنت أتمنى أن ينبثق عن لجنة صياغة الدستور لجنة أخري "لإعادة صياغة الديباجة" من غير تاريخٍ ملون ونثرٍ كالطبل؛ عالي الصوت لكنه أجوف! من العدد المطبوع من العدد المطبوع