صندوق أزرق من الباغة الصلبة، ذو غطاء شفاف، أغلب الظن أنه كان يخص علبة حلوى ضخمة يوما ما، ربما من الملبن أو الفوندام، لم أره أبدا بما يحتويه من حلوى، لم أدرك أنه كان صندوقا للحلوى إلا حين كبرت، هو عندى صندوقُ سحرى بكل معنى الكلمة، أول رؤيتى له كانت فى دولاب أبى رحمة الله عليه، مستقرا فى الرف السفلى مغطى بعناية، يسد فتحة الدولاب بجسمه، يفتحه ليخرج منه شيئا نحتاجه، يناوله لنا ويغلقه ثانية. أى شىء تحتاجه فى حجم قبضة اليد تجده هناك بقدرة قادر، حين تريد أن تمسح شيئا فى آخر الليل وأنت تنهى الواجب الدراسى ولا تجد أى ممحاة فى أى مكان ستجدها فى صندوق العجايب، حين تبحث عن ملقاط لتنزع شعرة عنيدة اكتشفتها فى المرآة قبل أن تخرج مباشرة عليك بالتوجه لصندوق العجايب، كافة أنواع الدبابيس، الأقلام، الزراير الغريبة بكل المقاسات، الدوبار، الأساتك بأنواعها، أقلام من كافة الأشكال والأنواع، أوستيك الساعة حين ينقطع، تجد غيره هناك، البرجل، المساطر ذات الحجم الصغير والأهم منها المنقلة والمثلثات الصغيرة، حتى غطيان "دواية" الحبر القديمة إن ضاعت، نجد مثلها فى صندوق العجايب! كل شىء موجود بيٌسر وسهولة فى صندوق العجايب. شغلنى الأمر كثيرا فى طفولتى، كيف لهذا الصندوق العجيب أن يعرف كل ما نريده ويختزنه، وكأنه يقرأ أفكارنا عن بعد؟ ربما يراقبنا بعيون خفية فى أركان الغرف؟ وبدأت أرى عيونا زرقاء فى الليل أحيانا ولم أكن أنزعج كثيرا حين أتذكر أنه بلا شك الصندوق يطمئن على ما لدينا وما ينقصنا ليوفره فى وقته، وتولد عندى شعور بالإجلال والهيبة من فتحة الدولاب، ولم أجرؤ أبدا على مد يدى وفتحه وأنا التى لم تخف عنى خافية فى أى مكان فى المنزل. "للسحر احترامه الواجب" هكذا فكرت. عجيب أمر هذا العجائبى! حتى طلب منى والدى يوما أن أحضر له شيئا من هناك. نظرت له متسائلة: " يعنى أروح وأفتحه؟" أومأ برأسه موافقا، وطرت إلى الأعلى حيث الغرفة وفتحت الدولاب وأنا ألهث، وأخرجت الصندوق بحرص ووضعته على الفراش وفتحت الصندوق وأصابعى ترتعش من الرهبة، ووجدت عشرات الأشياء فوق بعضها، أخذت أقلب بهدوء، أدقق وأفحص، وبدأت أستوعب محتويات الصندوق، هذه ممحاتى من العام الماضى، هذا زرار جاكيت أخى الأزرق القطيفة، هذا قلم أمى الأحمر، هذه أساتك جديدة، هذا غطاء دواية الحبر الزرقاء التى انكسرت! البراية الألمانى الحديد، أمواس، ملقاط أمى قبل أن تشترى واحدا جديدا، مقص، مقص آخر، معظمها أشياؤنا التى نرميها وننساها، تذكرت أبى فى مشاهد متفرقة، وهو ينحنى على الأرض ليلتقط شيئا أو آخر من تحت أرجلنا ويضعه فى جيبه، أو يرتب غرفة المعيشة فى الصباح المبكر قبل استيقاظنا بعد أن يصلى الفجر، قطعا كان يجمع كل ما نلقيه بدون اهتمام ويدخره للحظة أخرى سوف نحتاجه فيها، لكنه لم يلمنا ولم يقرظنا، فقط جمعها وجعل من إيجادها مرة أخرى تجربة ساحرة وكأننا نكتشف ما لدينا من جديد! لم يتوقف سحر الصندوق وقتها، أصبح له سحرا آخر، سحر اليد السمراء القوية ذات العروق النافرة التى تجمع وتدخر وتشبع الحاجة دون سفسطة ولا حتى صوت، أتذكرالصندوق كل مرة ألملم شواحن الهواتف الملقاة، أوكروت الذاكرة المرمية أوالأسلاك غير المستخدمة فى كيس كبير شفاف، أضعه على مكتبى ليبحث فيه أولادى عما ينقصهم ويلقونه بإهمال فأعيد جمعه، بكثير من السخط والغيظ! لم أحضر صندوقا ولا وضعته فى الدولاب، أين أنا من هذا الساحرالأكبر بصندوقه الأزرق ؟ من العدد المطبوع من العدد المطبوع