علي الرغم من أن الفنان صبري منصور (1943) أكثر فناني حركة التشكيل هدوءا، إلا أن إبداعه يكشف عن بركان، والحوار معه أيضا، فقد جمع بين ثلاثة مسارات: الأول فنان صاحب أسلوب متفرد، توحد معه، والثاني ارتباطه بالعمل العام باعتباره عميد الفنون الجميلة سابقاً (1989 1992)، وحاليا المسئول عن الفن التشكيلي من خلال رئاسته للجنة الفنون التشكيلية بالمجلس الأعلي للثقافة، وأخيرا اهتمامه بالكتابة عن الفن التشكيلي. لذلك يقول الفنان صبري منصور «الوضع الثقافي في مصر وضع صعب جدا، وهو ما يكشف عنه عدم وجود إبداعات قوية، والفن التشكيلي جزء من الثقافة، ويمر بنفس الظروف، لكن بعيد عن الشكل المثالي، فيه أمل يتمثل في ظهور وجوه جديدة، وأفكار وأناس عندها رغبة في التغيير نحو الأفضل إلي حالة تدعو إلي إعادة النظر في أشياء كثيرة ومراجعات لأمور كانت تابوهات» هل تعتبر الفن التشكيلي مكوناً أساسياً في ثقافة الأمة؟ - بالتأكيد لكن الحالة العامة ينتابها عدم الحماس، القضايا الكبري غير مطروحة، فيما السطحيات، والمظاهر، والشللية موجودة، كما أنه ليس هناك بحث حقيقي عن المواهب، فبالتالي من الصعب أن نجد نتائج، في الوقت الذي نعاني فيه من صداع الصراعات الدائرة التي تحركها دوافع مريضة ووراءها أسباب خاصة وشخصية، ليس لها علاقة بالعمل العام. في اعتقادك ما الأسباب؟ - المؤسسات الرسمية، تعمل علي احتفالات ومهرجانات، لا تصل إلي الجوهر، القاعات الخاصة هدفها الربح بحثا عن موارد تغطي مصاريفها الأساسية بأي ثمن، فيما تراجع دور الجمعيات الفنية، صحيح أن جمعية محبي الفنون الجميلة تسعي لعمل معرض سنوي، باسم الطلائع، لكنني دهشت عندما عرفت أن لجنة تحكيم هذا المعرض بلغ عددها 22 عضوا، منهم أعضاء مجلس الإدارة، ويبدو أن أي واحد ماشي في الشارع ضموه للجنة، ليحكم معرض الشباب فيما يحتاج هذا المعرض بالذات إلي خبراء في المجال والثقافة النقدية. ويضيف صبري منصور: أما الجمعيات الأخري فدورها سطحي بل في حالة موات، واتيلية القاهرة تعتصره الصراعات، ليس لدينا مؤسسات من النوع الذي تصنع تياراً فكرياً في المجتمع. من المسئول عن المشهد البصري في مصر؟ - للأسف المسئولية موزعة بين القبائل، ووزارة الثقافة ولجنة الفنون التشكيلية والقطاع ونقابة الفنانين التشكيليين، لكن علي كل الأحوال المسئولية هي انتشال المجتمع من القبح والتردي والعشوائية، فيما الواقع يشهد غياب أي دور مجتمعي لهذه المؤسسات، لدرجة لم نسمع يوما عن اعتراض من النقابة علي أي من المصائب البصرية التي تفشت في مصر بداية من الإعلانات، وفوضي العمارة واختفاء المساحات الخضراء، فتشويه البلد تحت سمع وبصر هذه المؤسسات. ما المظاهر الصارخة السلبية الآن التي استوقفتك؟ - من المفترض أن نتكلم عن أزمات تتعلق بقيم الجمال، لكننا الآن نواجه أزمة نظافة، والحالة التي وصلت لها مصر تجعلنا لا نتحدث عن الجمال نتحدث عن البديهيات والمسلمات، فالنظافة في الميادين العامة غائبة، وجبال القمامة في العاصمة، ناهيك عن الأقاليم، بعد أن كانت القاهرة مدينة المدن، ماذا حدث ظاهرة والتراخي في الحل والمواجهة، حدث كما حدث مع الدروس الخصوصية، أتحدي من يقوم بالقضاء علي الظواهر السلبية في مصر، لأنها تركت حتي استفحلت وتضخمت، والغريب أنها ظواهر تسيء لنا كلنا، فنحن لا نواجه الظواهر علي نحو صريح وحاسم. فالإعلانات في الشوارع ظلت تصدم العيون يوميا، وتنمو نمواً سرطانيا، وأتحدي من يقدر علي غسل المدينة منها. هل يمكن استثناء تعليم الفنون من هذا الواقع السلبي؟ - الذي يحدث في مصر، ليس بمعزل عن أي شيء ، بل إن التعليم تلقيني، بل انتفي التعليم عموما وأصبح مقولات جاهزة، وهو ما أثر علي كل شيء، فتعليم الفنون ينظر إليه علي أنه لهو ولعب وتضييع وقت، والمواد الأخري هي الأهم، بينما الفنون جانب في العقل لازم امتلاؤه، وهذا يفسر أن تجد نموذجاً من البشر حاصلاً علي تعليم مناسب ويتصرف علي نحو مخجل، بسبب غياب الإحساس بالجمال. من هم الفنانون الذين أثروا في تلاميذهم؟ - حسين يوسف أمين تعرفت عليه قبل أن يتوفي بسنين قليلة، فوجدت شخصية أشبه بالقديس، رجل استثنائي، يؤمن بالمثل العليا، والدليل علي ذلك مع فعله مع الجزار ورفاقه أعضاء جماعة الفن المعاصر، لأنه كان يستدعي أعضاء الجماعة إلي فيلته بالهرم، للرسم والقراءة والمناقشات الفنية والفكرية الواعية. البعض يردد انك أحد تلاميذ الجزار.. هل هذا صحيح؟ - عرفت الجزار قبل ما أراه، من خلال إبداعاته، وانجذبت إلي أعماله، بعد دخولي كلية الفنون الجميلة، لكنني عندما سألت عليه في وقتها قيل إنه في بعثة، فتخيلته شخصية أسطورية من وحي أعماله الغريبة، وتصورت أن من يصنع هذا العالم الميتافيزيقي، لابد أن يكون شخصاً له مواصفات خاصة، وعندما تعرفت عليه عن قرب، رأيته إنساناً بسيطاً وتلقائياً. ويتذكر صبري منصور ابن قرية نجاتي قرب مدينة طنطا، ويقول: ومولد السيد البدوي بطنطا، هو مفتاح معرفة الروح والكيمياء التي جمعت بيني والجزار فقد كان مولد السيد البدوي بمظاهره الغامضة والغريبة، بحكم أنني ابن هذه المنطقة، مثيرا لكل حواسي بكل أجوائه، بعد أن كنت أتردد علي هذا الطقس السنوي الشهير، لذلك عندما شاهدت أعمال الجزار، أرجعني إلي هذا العالم الذي اثر في فترة شبابي، وفيما يبدو أن كيمياء حب عالم الأحياء الشعبية هو المشترك الذي جمع بيننا علي نحو فكري، فلم تكن العلاقة تتخذ منحي خاصاً، فهي علاقة يعتز فيها التلميذ بالأستاذ. لذلك أجد جزءاً بداخلي من الجزار وجزءاً من ندا. وداخلي حاجة من حسن سليمان ومصطفي أحمد لكن ليست بقصد، فقد كان إليوت يقول «أكثر لحظات الشاعر صدقا هي اللحظة التي يثبت أن أجداده أحياء». فقد اقترح الفنان الجزار علي مشروع تخرجي عن رقصة الزار، وإن كنت بعد ذلك قد استنتجت دوافعه، فقد أراد أن يقارن عملي بعمل حامد ندا عن نفس الموضوع. ما سر اختيار الجزار لك لتنفيذ لوحة حفر قناة السويس؟ - تأثرت في البداية بعمل الجزار لكن مع الوقت بدأت أبعد وأتخلص من أي تأثيرات، لكن في عام 1965 كلف الجزار بعمل لوحة كبيرة للمتحف البحري ببورسعيد عن ملحمة حفر قناة السويس، في الوقت الذي اشتد عليه مرض القلب، فخصني بالنموذج المصغر، للوحة وكلفني بالتنفيذ، وبالفعل قمت بعمل اللوحة كلها، ولم يشترك فيها الجزار، إلا بوضع وشم علي ذراع أحد العمال مثالا، أو أشياء وتفاصيل هذا القبيل، فيما كان النموذج المصغر عبارة عن لوحة صغيرة جدا منفذة بألوان الجواش المائية، بينما اللوحة التي نفذتها للمتحف بالألوان الزيتية. كيف تري مشروعك العلمي التي بدأت به حياتك في رسائلك العلمية التي جاءت تحت عنوان نحو تصوير مصري معاصر؟ - هو ده الحلم الذي كان موجود فكرت فيه بشكل ساذج، كان هناك مناخ عام في عقد الستينات، يبحث عن منطلقات الشخصية المصرية المعاصرة، ومحاولة إحيائها، ممثلة في يوسف إدريس في المسرح، ومحفوظ في الرواية وعبد الرحمن الشرقاوي، وخيل لي لو جمعنا التراث الفرعوني والقبطي والاسلامي، ممكن أن نصل إلي ملامح الشخصية المصرية، لكن اتضح أن ذلك أشبه بالمعادلة الكيميائية. ويبدو عندما طرحت ذلك علي نفسي لم أكن قد نضجت بعد. والآن..؟ - الحلم استطعت أن أحقق منه نسبة معقولة، كما أن صيغ كل من محمود سعيد والجزار وندا وتحية حليم، قاربت من ملامح الشخصية المصرية بصريا. وماذا عن دور لجنة الفنون التشكيلية بالمجلس الأعلي للثقافة التي ترأسها؟ -منذ سنوات طويلة اختلف دور اللجنة عما كان عليه عند إنشاء المجلس الأعلي للثقافة، واقتصر علي القيام بأنشطة ثقافية محدودة، وكنت أتمني أن تتاح الفرصة للجنة لكي تقوم بدور أكثر فاعلية وتأثيرا في الحركة الفنية، وأن تطلب مشورتها - علي الأقل - في السياسات والخطط التي توجه مسار الحركة الفنية، فلا جدال في أن التفكير الجماعي يكون أكثر إيجابية ونفعا. وفي حدود الإطار الثقافي الذي أوضحته نظمت اللجنة خلال السنوات الماضية عدة ندوات ثقافية ناقشت العديد من القضايا المطروحة علي الساحة الفنية، كان من بينها ندوة تناولت (اتجاهات ما بعد الحداثة عند جيل الشباب) وندوة طرحت فيها قضية (مستقبل الفنون التشكيلية في مصر)، وندوة صاحبت الاحتفال المئوي لإنشاء الفنون الجميلة (الفنون الجميلة في مائة عام). كما احتفت اللجنة بمجال النقد الفني التشكيلي من خلال تكريم رموزه، واستعراض إنتاجهم النقدي، فكانت هناك ندوة (مختار العطار.. ناقدا) وأخري خصصت لتكريم الناقد الكبير د. نعيم عطية، وفي العام الماضي أقيمت ندوة (بدر الدين أبوغازي.. الناقد والرسالة)، وصدر عنها كتاب ضم البحوث المقدمة، وهذا العام نظمت مسابقة (دراسة نقدية لمسار الحركة الفنية التشكيلية في مصر خلال عقدي الستينات والسبعينات) وسوف تقام ندوة يعرض فيها الفائزون الثلاثة بجوائزها خلاصة أبحاثه لمناقشتها يوم 22 يونيو الحالي. بالإضافة إلي ذلك تبنت اللجنة تنظيم مسابقة (المعرض الخاص الأول) منذ عام 2006، وهي مسابقة تقام كل عامين، وتهدف إلي الكشف عن الفنانين المتميزين الذين تفصح معارضهم الخاصة الأولي عن شخصيات فنية واعدة، وتتسم أعمالهم بالجدية والاستقلالية، وذلك بغرض تشجيعهم وحثهم علي مواصلة الإبداع الفني الجاد، وسوف يفتتح معرض المسابقة في دورتها الثالثة وتوزع جوائزها بقاعات مركز الجزيرة يوم 19 سبتمبر القادم. وماذا عن مؤسسات الدولة وسبل دعمها؟ - من الأفضل أن يكون هناك تنسيق وتكامل بين قطاع الفنون التشكيلية والمجلس الأعلي للثقافة بشكل أفضل بما يعود بالفائدة علي الحركة الفنية.