لن تمر ثورة بركان " إيجافجالاجوكول" بالأرض مرور الكرام، بل ستكون لها آثارها الممتدة لزمن قادم، لا يعلم مداه إلاَّ الله، كما تقول (سالي سينيرت)، اختصاصية البراكين في متحف التاريخ الطبيعي التابع لمؤسسة سميثسونيان الأمريكية؛ فلن يقتصر الأمرُ علي الآثار الراهنة، التي اكتوي بنارها العالم في الأسبوع الماضي التالي لثورة البركان الأيسلندي مباشرة، حيث أُقفِلت السماوات الأوروبية، وحطت الطائرات علي أرضيات المطارات، وتكدس عشرات الآلاف من المسافرين، عالقين علي مقاعد صالات الانتظار. وكانت أقل الأضرار في موقع البركان ذاته، حيث أُخلِي 800 فرد، فقط، هم سكان المنطقة المحيطة بالنهر الجليدي المسمي (إيجافجالاجوكول)، الذي انفجر البركان من تحته، علي بعد 120 كيلومتراً من العاصمة الأيسلندية (ريكجافيك). وكان الخطر الذي يهدد هؤلاء السكان هو الفيضان الناتج عن ذوبان طبقة الجليد بالمنطقة، والذي يبلغ سمكها 200 متر، وأذابتها الحرارة المتولدة عن الانفجار البركاني؛ وقد وصل عمق مياه الفيضان إلي ثلاثة أمتار. ولسكان أيسلندا خبرة تاريخية بهذا النوع من الفيضانات، ويسمونه (جوكولهلوبس)، ويتميز بالمفاجأة وبأمواجه المدمرة. شلل خطوط الطيران في العالم أما الضرر الأفدح، فكان الشلل الذي ضرب معظم خطوط الطيران الأوروبية والعالمية، والتي تقدر خسائرها بمئات الملايين من الدولارات؛ إذ بدأ البركان يقذف غباره منذ الساعات الأولي من صباح الثلاثاء 13 إبريل الحالي، وأخذ الغبار في الانتشار، متصاعداً إلي ارتفاعات تتراوح بين 6 : 11 ألف متر، في طبقة الستراتوسفير من الغلاف الجوي للأرض. وعند منتصف نهار ذلك اليوم، كان غبار إيجافجالاجوكول يغطي أجزاء كبيرة من الشمال الأوروبي، عند تلك الارتفاعات التي اعتادت خطوط الطيران التجارية أن تتخذ مساراتها فيها، فلم تعد صالحة لأنشطة الطيران؛ فالغبار البركاني الذي أصبح يغشي تلك الطبقة تدخل في تكوينه ذريرات السليكا التي تنصهر إن وصلت إلي محرك الطائرة، بتأثير حرارته المرتفعة، وتترسب عليه فتعطبه، وإن لم تعطله أو توقفه، فإنها تلحق به أضرارا بالغة. وتنسحب خطورة هذا الغبار البركاني علي الطائرات غير النفاثة، والعمودية، فهو -في حقيقته- عبارة عن مسحوق صخري، إن اصطدم بقوة بزجاج نوافذ تلك الطائرات أفقدها شفافيتها، وقد يحطمها، وهو أمر محفوف بالخطر. الغريب، أن بعض علماء البراكين يري أن ثورة هذا البركان لم تكن مفاجئة، إذ كانت لها مقدمات في 20 مارس الماضي، لم تلبث أن اختفت بعد أيام قليلة. وقبل أن يثور هذا البركان، بساعات قليلة، حلَّقَ عدد من العلماء في مروحية فوق موقعه، فلم يستدلوا علي وجود حمم بركانية. ويستطيع الجيولوجيون، بصفة عامة، التنبؤ بحدوث الثورات البركانية، معتمدين علي بعض القياسات والدلائل، منها الهزات الأرضية، والانبعاثات الغازية في منطقة النشاط البركاني، وإن كانت هذه التنبؤات غير موثوقة مائة بالمائة، فثمة دائماً احتمال للمفاجآت. وهذا ما حدث في حالة إيجافجالاجوكول، فقد تحرك مركز البركان إلي الشمال، حيث انفجر ثائراً. والملاحظ أن براكين المناطق المتجمدة، كهذا البركان، تبدأ بإطلاق سحابات بيضاء غنية ببخار الماء الناتج عن ذوبان الغطاء الجليدي لمنطقة الثورة البركانية، لا تلبث أن تنقشع، لتحل محلها سحبٌ من الغبار الأسود، من طفح جوف الأرض. ثورة في القرن ال 19 ومن الصعب التنبؤ بوقت انتهاء ثورة هذا البركان الذي سبق له أن ثار في القرن التاسع عشر، وطالت ثورته لأكثر من عام، من ديسمبر 1821 إلي يناير 1823، ولكن الثورات لا تتشابه، كما يأمل العلماء الذين يعكفون هذه الأيام علي تحليل ودراسة عينات من رماد إيجافجالاجوكول، للتوصل إلي تركيبه الكيميائي، ومقارنته بكيمياء رماد ثورة القرن التاسع عشر. فهل تعطي هذه الدراسات فكرة عن حجم هذا البركان، مقارنة بحجم بركان كراكاتوا الذي ثار عام 1883، وغطي الأرض بغلاف سميك من الغبار حجب ضوء الشمس تماماً، وأدي إلي انخفاض درجة حرارة الأرض؛ أو -لا قدر الله - بركان بومباي (سنة 79 ميلادية) الذي قبرَ مدناً بكاملها؟! أم تراه - بركان أيسلندا - يهدأ قبل أن ينتهي العلماء من دراساتهم؟ إن خبير ترتيبات مواجهة الأخطار البركانية، الأمريكي "جون إيشيلبرجر" يلفت نظرنا إلي حقيقة أن الثورات البركانية ليست أحداثاً نادرة، بل هي شائعة، وعدم علمنا بها لا يعني أنها غير موجودة، فهي تحدث في أماكن بعيدة، ومراكز غير مأهولة، مثل منطقة ألاسكا. ويضيف قائلاً إنه من المستغرب أن مثل هذه الأحوال لم تعرف من قبل، بالرغم من أن أيسلندا معروفة ببراكينها النشطة جداً، والتي يثور واحد منها كل عشر سنوات، في المتوسط؛ ويعزي ذلك إلي أن الظروف المناخية كانت رحيمة بأوروبا، فيما سبق، وتبعد الغبار البركاني عن أجوائها. والمعروف أيضاً أن أيسلندا ليست إلاَّ نقطة بركانية ساخنة واحدة، بينما ينتشر في شمال المحيط الهادي ما يقرب من مائة بركان نشط، يقع كثير منها تحت مسارات خطوط الطيران العابرة للمحيط. وقد أدت ثورات لهذه البراكين في شمال الهادي، مثل بركان جزر أليوتيان في ألاسكا عام 2008، وبركان جزر كوريل الروسية عام 2009، إلي تعطيل محدود لحركة الطيران. اضطرابات بركانية ويقول "توم موراي"، أستاذ جيولوجيا البراكين في مرصد ألاسكا للنشاط البركاني: إن منطقة المحيط الهادي في الشمال الغربي الأمريكي معرضة لاضطرابات بركانية، إن ثار واحد من براكين سلسلة جبال الكاسكاد بتلك المنطقة، وإن تأثير ذلك علي الجو والبني التحتية سيكون أشد من الآثار التدميرية التي خلّفتها ثورة بركان سانت هيلين عام 1980، الذي لو قُدِّرَ لثورته أن تحدث حالياً لكان الخرابُ الناتج عنها أعمّ. ويقول "موراي" أيضاً: إن نشاط براكين الكاسكاد ليس ثابتاً، وإن زيادة واضحة في هذا النشاط تحدث بمعدل مرتين كل قرن. الطريف، أن عالم البراكين توم موراي كان قد علق بباريس، بسبب توقف حركة الطيران، ولم يتمكن من العودة إلي مقر عمله بألاسكا، بعد مشاركته في اجتماع حول الرصد البركاني في فرنسا. وقال معلقاً علي ذلك: إن "بنيامين فرانكلين" قد سبقه إلي التعرض لظروف مماثلة عام 1783، وكان مقيماً بباريس كأول ممثل دبلوماسي أمريكي في فرنسا، وكتب يصف الجو المغبش بالغبار الذي تسببت فيه ثورة لنفس البركان الأيسلندي، ولكنها كانت أشد. لقد كان الوقت صيفاً، ولكنه يتحدث عن (.. برودة غير عادية في الجو تسود أوروبا والولايات المتحدةالأمريكية، وقد تساقطت ثلوج وبقيت علي الأرض دون أن تذوب؛ كما أن الشتاء جاء أشد قسوة، ورأينا ما يشبه ضبابا لا ينقشع، يغطي كل أنحاء أوروبا، وجانباً من الشمال الأمريكي!). فهل تترتب علي ثورة البركان الأيسلندي الحالية ظروف مناخية غير اعتيادية، كتلك التي يحدثنا عنها فرانكلين؟