تحتفل الكنيسة الإنجيلية هذا العام بمرور مائة سنة علي صدور «الهدي» وهي المجلة الرسمية للكنيسة الإنجيلية المشيخية بمصر، وقد اهتمت الكنيسة بالبعد الثقافي فأصدرت الكتب والصحف. وللكنيسة الإنجيلية تاريخ طويل مع الصحافة في مصر والشرق الأوسط، ويمكن تقسيم الصحافة الإنجيلية إلي ثلاثة أجيال متتابعة هي: النشرة الإنجيلية، المرشد، الهدي. ولا بد أن نشير في البداية إلي وضع الصحافة في القرن التاسع عشر وهي بطبيعة الحال لون جديد علي المجتمع العربي والمصري، ويقول أحد المؤرخين للصحافة المصرية: "قبل أن يمضي القرن التاسع عشر الميلادي كان في مصر 200 دوريةً تصدر بانتظام منها صحافة يومية - مسائية صباحية- يزيد عددها علي 60 صحيفةً منها صحف واسعة الانتشار مثل: الاتحاد المصري، الأهرام، المقطم، والمؤيد. وزاد اعتماد الصحف علي التوزيع اليومي بعد أن كان اعتمادها علي الاشتراكات التي كان يتحملها وجهاء القوم باعتبارها "أريحية". غير أنَّ ذلك تغير بتطور الصحف اليومية فأقبل الناس علي شراء الصحف من البائعين وأصبح ذلك عادة رفعت من أرقام التوزيع اليومي للصحف في عهد عباس حلمي أكثر من عشرة ألاف نسخة، بل وبلغ ارتفاع توزيع الصحف اليومية وحدها خلال الحقبة الأخيرة من القرن التاسع عشر وخلال حملات السودان إلي ضعف هذا العدد". ولقد لعبت الصحافة في القرن التاسع عشر دورًا كبيرًا في النهضة العربية والقومية ويذكر أنيس النصّولي أنَّ من أسباب النهضة العربية في القرن التاسع عشر تسعة أسباب ذكر منها: "انتشار فن الطباعة الراقي في الشرق الأدني، ثم اهتمام أبناء البلاد بالصحافة والتأليف". أما عن الصحافة القبطية يذكر رياض سوريال: "برز الأقباط في الصحافة منذ نشأتها الأولي في مصر ويرجع إلي قائمة بعشرة مجلات قبطية ويقول لم يذكر البيان مجلتين دينيتين للبروتستانت الأولي هي "المرشد" أسست سنة 1894م ومنذ سنة 1911م تغير اسمها إلي الهدي وهي لسان حال الكنيسة الإنجيلية، والمجلة الثانية هي نجم المشرق وقد صدرت سنة 1900م" وجدير بنا ونحن نتعرض للصحافة أن نركِّز في هذا المقام علي الإنتاج الصحفي العربي المسيحي الإنجيلي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. من الفخر أنْ نذكر أنَّ عمر الصحافة الإنجيلية في مصر قد تجاوز المائة والأربعين عامًا. إذ بدأت الصحافة الإنجيلية بعد مرور 10 سنوات من بداية العمل الإنجيلي في مصر بصدور "النشرة الإنجيلية المصرية" سبتمبر 1864 وكان هذا هو التاريخ الفعلي لبدء الصحافة الإنجيلية في مصر، وعلي نسقها صدرت "النشرة الأسبوعية" في بيروت في عام 1865. خلال هذا التاريخ الطويل المجيد حملت الصحافة الإنجيلية في مصر التميز الديني المبني علي الفكر المصلح الأصيل مع الاندماج الثقافي للمجتمع المصري، فوضعت بذور النهضة والتنوير، وأرست حرية الضمير والتفكير، وهي تعتمد علي أنَّ الشعب المتلقي لإبداعها هو شعب مثقف يدرك قيمة الكلمة والفكر، ويشجع روح الإبداع، ويذكِّي قيمة النقد الذاتي البناء. ففي الصحافة الإنجيلية منذ بدايتها ونحن نلمس الرأي والرأي الآخر بوجود مساحات للنقد البناء الهادف لذلك فالصحافة الإنجيلية في مصر تنويرية مبدعة، في الريف والمدينة، وللرجل وللمرأة. ونستطيع أنْ نقول- بحق- إنَّ الصحافة الإنجيلية شاركت في صياغة وتشكيل عقل الأمة المصرية والعربية، وتركت لنا أدبًا يستحق الدراسة. فالقارئ للصحافة الإنجيلية يجد التشديد علي الدور الإنساني والتنويري لنهضة الوطن، والتركيز علي رسالة الإنسان في أن يكون فاعلاً مشاركًا في رقي بلاده ونهضتها. البداية لا بد أن ننظر إلي العمل الصحفي الإنجيلي في ضوء الصحافة العامة مثل: مجلة "الهلال" التي أسَّسها جورجي زيدان، وجريدة والأهرام التي أسَّسَها كل من: سليم وبشارة تكلا، و«الوطن» وأسسها ميخائيل عبد السيد وهو أول من يشغل وظيفة نائب وكيل للطائفة الإنجيلية بمصر، ومن هنا نري الدور المسيحي العربي في تأسيس الصحف. يذكر أديب نجيب في دراسة له تحت عنوان "الصحافة الإنجيلية في مصر" عن بداية تكوينها في مصر ومسارها التاريخي فيقول: "في سبتمبر 1864 (أي بعد حوالي عشر سنوات من بدء العمل الإنجيلي في مصر) صدرت نشرة شهرية بعنوان "النشرة الإنجيلية المصرية" وعلي نسقها صدرت النشرة الأسبوعية في بيروت في 1865، والمعروف أنَّه قد صدر منها في بداية عام 1866 عددان وانَّ تكلفة الطباعة في ذلك الوقت كانت مرتفعة جدًا، كما كان بين محرريها شخص يدعي عطية أفندي شمس. وفي فبراير 1892 صدرت نشرة روحية أخري للكنيسة سُميت بدءا من 5 يناير 1894 باسم "المرشد" وكانت نشرة أسبوعية، في 8 صفحات، واتخذت شعارًا لها الآيتين من الكتاب المقدس: "سِرَاجٌ لِرِجْلِي كَلاَمُكَ وَنُورٌ لِسَبِيلِي." (مزمور 119: 105). "وَالْحَكِيمُ بِالإِرْشَادِ يقْبَلُ مَعْرِفَةً." سفر الأمثال 21: 11" وكان رئيس التحرير علي ما نعلم المرحوم عطية شمس. وفي سنة 1908 استقال المرحوم عطية شمس وتعين المرحوم الشيخ متري صليب الدويري رئيسًا للتحرير ورئيسًا لتحرير "نجم المشرق" أيضًا. وفي جولة الأسبوع لعدد 16 يناير 1954 كتبت مجلة الهدي تحت عنوان "السنة الرابعة والأربعون لمجلة الكنيسة" تذكر سبب اختيار اسم المرشد فتقول المجلة: «قد اخترنا اسم المرشد من بين الأسماء التي أتحفنا بإرسالها أعزاؤنا قراء جريدتنا ليكون اسمها بدل "النشرة الإنجيلية المصرية" وذلك بالأخص نظرًا لكون اسم النشرة خاصًا بأخوتنا في بيروت». ويذكر أديب نجيب في الدراسة المشار إليها سابقًا: أن النشرة الإنجيلية المصرية هي أول صحيفة مصرية صدرت بمصر. وقد توقفت "المرشد" عن الصدور عام 1910م. وعلي صفحات "المرشد" كتب القس غبريال الضبع ثلاث مقالات في عامي 1899و 1900 يدعو فيها إلي إنعاش الكنيسة ووسائل تحقيق ذلك وكانت ثمرة هذه المقالات بدء انعقاد احتفال الصلاة السنوي 1900. في 6 يناير 1911 ماتت «المرشد» وصدر أول عدد لمجلة "الهدي" في مدينة الإسكندرية وكانت أسبوعية بنفس نظام المرشد في ثماني صفحات و اتخذت شعارًا لها الآيتين: "لِكَي يهْدِي أَقْدَامَنَا فِي طَرِيقِ السَّلاَمِ" (لو 1: 79)، "وَالرَّبُّ يهْدِي قُلُوبَكُمْ إِلَي مَحَبَّةِ اللهِ" (2تس 3: 5) وكانت تطبع في مطبعة جرجي غرزوري بشارع فرنسابالإسكندرية كانت مادتها عبارة عن مقالات روحية طويلة وقصص كثيرة جدًا تساعد الراعي في تحضير مادة مواعظه، وبعض الأخبار والإعلانات السنودسية وظلت الهدي تصدر أسبوعيا حتي عام 1935 ثم تعدل عدد مرات صدورها في السنة فأصبحت تصدر بمعدل 20 عددًا في السنة وبعدها أصبحت تصدر شهريا. وفي سنة 1936 سلمت المرسلية الأمريكية إدارة المجلتين (الهدي - نجم المشرق) للسنودس (المجمع الأعلي للكنيسة الإنجيلية المشيخة بمصر). تُظهر ديباجة العدد الأول تمسّكَ الكنيسة الإنجيلية آنذاك بعروبتها، كما أنّها تؤكد علي أنّ الكنيسة الإنجيلية كانت تدرك، آنذاك، ضرورة التعبير عن إيمانها بطريقة قرينية. وكتبت "الهدي" في افتتاحية العدد الأول يناير 1911 والذي أعادت الهدي نشره في عدد يناير 2010 تقول: "الحمدُ لله ربّ الهدي، المانح لعباده المتقين الحكمةَ، والحجي، المنير بوحيه الصادق حنادسَ الدجي، الحافظ مَنْ اتبع صراطه من الغواية، والهوي، المرشد المعتصمين بعروةِ إنجيلهِ الوثقي، إلي محبته الوسطي، المعلن حقّه في إنجيلٍ طاهرٍ، تنزيلٌ سماوي هو النور الباهر، المدبر خلاصًا لجميع بني البشر، في مسيحه الإله المتأنس، والإنسان البار المقتدر. هذا ولمّا كان الإنسان قد ضلّ عن الهدي، وسار في سبيل الغواية والهوي، وأطاع الوسواس الخناس، الذي يوسوس في صدور الناس. وابتعد عن ربه الأعلي، الذي خلق فسوي. فصار مستحقاً لنار الله الموقدة، التي تطّلع علي الأفئدة. إنّها عليه مؤصدةٌ، في عَمَدٍ ممدّدة، فلم يشأ إلهُ المحبة الحكيم أن يترك كلّ البشر واردين علي نار الجحيم، ليقاسوا فيها العذاب الأليم. ويقيموا فيها خالدين جزاء شرهم العظيم. فأنزل كتابَه الحقّ: التوراة، والإنجيل الثمين، من عنده هدي، ونورًا، ورحمةً للعالمين. يظهر هذا النصّ، بما لا يدع مجالاً للشك، وعيا مستنيرًا بالقرينة العربية والإسلامية التي كانت، وما زالت الكنيسة تعيشها في الشرق الأوسط. كذلك، يظهر مدي مرونة الكنيسة الإنجيلية في تبني تعبيرات إسلامية، مأخوذة بشكلٍِ مباشرٍ من نص القرآن الكريم، أو بشكل غير مباشر من الصيغ الإسلامية. تقتبس الديباجة الحديث عن الوسواس الخناس، الوارد ذكرُه في سورة الناس، كذلك، الحديث عن النار والأفئدة، وهو اقتباسٌ مباشر من سورة الهمزة، كذلك الاقتباس من سورة المائدة في وصفها للإنجيل: بالهدي وبالنور. ومن خلال العرض التاريخي السابق نجد أنَّ الصحافة الإنجيلية بمصر وإنْ بدأت بمجلة النشرة الإنجيلية المصرية 1864 ولكن عبر مسارها التاريخي، نمت، وازدهرت؛ فخلال مائة وأربعين عامًا ظهر بجانب المرشد والهدي نجم المشرق 1900، وأجنحة النسور 1959، وأعمدة الزوايا 1957م، ورسالة النور 1956. وأصبحت هذه الصحافة معبّرة عن فكر ورأي الكنيسة الإنجيلية بمصر، والتي نتمني لها الدوام ومزيداً من الفكر والإبداع. استمرارية وعطاء تدخل الهدي هذا العام، عامها المائة وخلال هذا القرن من الزمان سَطَّرت المجلة عبر صفحاتها جزءًا كبيرًا من تاريخ الكنيسة الإنجيلية في مصر، بحيث أصبحت من أهم المراجع لدي الباحث في هذا التاريخ، وكان للهدي عمقها الروحي، كما كانت لها إسهاماتها الإعلامية الكبيرة. وعبر هذه السنين تطورت أنماط المواد التحريرية، وتطور حجم المجلة كما تطور أسلوب طباعتها وإخراجها، حتي غدت الآن واحدة من أرقي بضع مجلات مسيحية عربية في منطقة الشرق الأوسط، فتميزت عبر تاريخها الطويل بنشر الخبر والدراسة، والقصة، والحوار، والتاريخ، وعرضت علي صفحاتها قضايا كثيرة تخص الكنيسة والمجتمع. واستمرارية مجلة الهدي حتي الآن يعبَّر عن اهتمام الكنيسة بالنشر، وبالآداب، وبالخبر. ناقشت الهدي عبر صفحاتها بكل حرية وانفتاح قضايا متعددة منها علي سبيل المثال: الاهتمام بقضايا التنوير والإبداع، الاهتمام بالفكر والعقيدة الإنجيلية، قضايا الحوار والتعددية وقبول الآخر. الاهتمام بالقضايا السياسية الخاصة بمصر والتأكيد علي الدور النبوي للكنيسة. التركيز علي البعد المسكوني في العلاقات بين الكنائس الأرثوذكسية والكاثوليكية، الاهتمام بالجانب الرعوي، رصد الأخبار المحلية، الاهتمام بالتاريخ الكنسي، الاهتمام بالجانب الوعظي في نشر عظات والأخلاق الحميدة، التأكيد المستمر علي حقوق الإنسان، والنقد الإيجابي البناء. القس عيد صلاح راعي الكنيسة الإنجيلية الثالثة بالمنيا