لم يكن بروز إشكالية العلاقة بين الشيعة والسنة وقضية الحكم متوقفا علي سقوط النظام الصدامي وتشكيل نظام سياسي جديد منبثق من نتائج الانتخابات التي جرت في العراق. إنها ليست إشكالية واحدة فهناك العديد من الإشكاليات من بينها من يمثل الشيعة والسنة وموقف النظام العربي الرسمي من الديمقراطية والانتخابات (تحت أو فوق الاحتلال) وأخيرا وليس آخرا الموقف من أمريكا وإسرائيل. يعرف الجميع أن إيران الشاه صديقة أمريكا وإسرائيل كانت حليفا وثيقا لأغلب النظم العربية باستثناء النظام الناصري ولم يكن هناك من يتحدث عن تشيعها كما يجري الآن. وهناك إشكالية من يمثل أهل السنة ويتحدث باسمهم بعد سقوط الخلافة العثمانية وبروز التيار الوهابي الذي يتصرف باعتباره الممثل الشرعي والوحيد لأهل السنة بل وللإسلام والمسلمين ويسعي لإقصاء المعتدلين والانفراد بالقرار. كما أنه لا يمكن من الناحية الواقعية القول إن الشيعة يشكلون فريقا واحدا متجانسا تحركه سلطة مركزية تسعي لإقامة أممية شيعية تتجاوز الحدود الجغرافية والتباينات العرقية والقومية واختلاف الرؤي حتي داخل البلد الواحد وخير شاهد علي ذلك هو التباين في الرؤي بين شيعة العراق وشيعة لبنان حول كيفية التعامل مع المشروع الأمريكي في المنطقة. لهذه الأسباب يتعين علينا أن نتحفظ علي أي تحليل سياسي يلخص المسألة العراقية في كونها صراعا سنيا شيعيا إذ أننا نعتقد بتعدد عوامل الصراع الاجتماعي وأن الخلاف المذهبي وحده لا يكفي لإشعال حرب أهلية ما لم يكن هناك من يسعي لتوظيفه في تحقيق أهدافه السياسية. سلطة المذهب أم مذهب السلطة؟! يتعين علي الباحث في ملف النزاع المذهبي أن يحدد رؤيته لطبيعة ونشأة هذا النزاع. هل هو نزاع فكري عقائدي قاد إلي صراع سياسي أم العكس؟!. هل انقسم المسلمون في البداية إلي فريق سني وآخر شيعي وبدأ كل منهما في محاولة تعزيز موقعه عبر شن الحرب علي الطرف المقابل أم أنهم انقسموا في البداية انقساما ذي شكل سياسي ثم بدأ بعض الأفرقاء في تبرير موقفه وصوغه مذهبيا بحيث يمكن توظيف هذه الصياغات والشعارات لخدمة موقفه السياسي؟؟!!. هل انطلقت (ثورة يوليو) من المبادئ الست أم أنها كانت حركة عسكرية انقلبت فحكمت ثم بحثت لها عن نظرية فكانت المبادئ الستة والميثاق ثم الاشتراكية؟!. في رأينا أن القول الثاني هو الصحيح. فالفريق السني (إن صح كونه فريقا واحدا) مر بأدوار وأطوار فكرية وفقهية يناقض بعضها بعضا. الرؤية الفقهية الأموية اعتمدت نظرية (الإمامة في قريش) دعما لشرعيتها ووجودها ثم جاء العباسيون يرفعون شعار الإمامة في بني هاشم ثم جاء الأتراك العثمانيون يبحثون عن شرعية فوجدوها في المذهب الحنفي الذي يجيز إمامة غير القرشي. وبين هذه الأطوار والأدوار حكم العبيد المماليك وتحكموا من دون أن يكلفوا أنفسهم مؤنة البحث عن هكذا شرعية إلا أنهم لم يمانعوا أن يضموا إلي دولتهم (خليفة عباسي) ويجعلوا من القاهرة عاصمة لهذا الخليفة التائه. المبدأ الأهم في الشرعية السياسية في الدنيا بأسرها هو مبدأ الاختيار القائم علي المفاضلة بين مرشح أو أكثر وهو مبدأ قديم قدم التاريخ الإنساني إلا أن (المسلمين) لم يعترفوا أصلا بمبدأ المفاضلة وشرعنوا مبدأ القهر والغلبة كأمر واقع لا يمكن دفعه, وجعلوه طريقا ثابتا وموصلا لسلطة قائمة علي الشرع والدين!!. إنه قانون الغلبة والإقصاء القاضي باستبعاد كل من ينتمي لمدرسة أهل البيت من حق اعتلاء كرسي السلطة. طبعا لا يعني هذا أنه لم يكن هناك استثناءات أو خرق لهذا القانون. أحد الاستثناءات المعاصرة هي الحالة اللبنانية التي قامت علي مبدأ التقاسم الطائفي الذي أعطي الشيعة حصة مساوية من ناحية الكم وليس الكيف للسنة. ولكن (الفضل) في هذا يرجع لخالتي فرنسا!!. حالة استثنائية معاكسة هي الحالة العراقية والتي ضمنت للسنة حصة ثابتة من السلطة وفقا لاتفاق غير مكتوب وهو ما أسست له أمنا أمريكا برضا وموافقة النظام العربي الرسمي. في التاريخ نجد حالتين. الأولي هي الحالة الإيرانية أو الدولة الصفوية التي تبني مؤسسها منذ البدء المذهب الشيعي الإمامي ونجح في إقامة دولته وحمايتها من محاولات الاقتلاع العثمانية. أما النموذج الثاني فهو الدولة (الفاطمية المصرية) ونصر علي هذا الوصف فهكذا وصفها المؤرخون رغم أن بعض المصريين من تاريخهم يتنصلون!!. لم يكن الصراع دوما يتعلق بنقاش حول الأفكار والمذاهب بل بصراع حول السلطة يجري الاستعانة فيه بالأفكار والآراء والمذاهب والأمر بدأ كعادة تحولت أحيانا إلي (عبادة بالقتل والتكفير لكل من لم يكن مثلنا ولم يخضع لرأينا)!!. الآثار الكارثية لهذه الحروب يتباهي أصحاب العقل الطائفي المشوه بالانتصار الذي حققه السيد صلاح علي الفاطميين وأنه كان نجما بارزا من نجوم الإبادة المذهبية والحضارية. فات القوم الذين لم يعتادوا قراءة التاريخ قراءة طولية (قراءة الحدث وتداعياته) أن القضاء علي الدولة الفاطمية جر وراءه سلسلة من التداعيات الكارثية التي تركت بصماتها علي تاريخ المسلمين من يومها وصولا إلي الواقع المعاصر. أسقطت الدولة الفاطمية عام 568ه تحت تأثير الهجوم العباسي الصليبي المزدوج (استرد الفاطميون القدس من السلاجقة لمدة عام واحد قبل نجاح الهجوم الصليبي في أخذ الشام والقدس) ثم جاء الاجتياح التتري لبغداد سنة 656ه بعد أقل من مائة عام ليدفع المسلمون ثمن تواطؤ البعض مع الصليبية العالمية وهكذا تواصل واستمر التعثر الإسلامي وصولا إلي وقوع هذا العالم الآن بصورة شبه كاملة تحت الهيمنة الغربية التي تقول للعربي كن فيكون, هُن فيهون!!. من أوائل القرن الرابع وحتي نهاية القرن السادس الهجري كان الفاطميون المصريون يحاربون ضد فريقين متحالفين أغلب الوقت ضدهم هم الروم وحلفاؤهم في بلاد الشام الذين رفعوا شعار (لو كان بيدي عشرة أسهم لألقيت بتسعة منها -وفي رواية بعشرة- ضد الفاطميين وسهم واحد ضد الروم) ومن لا يصدقنا فليقرأ كتب التاريخ. لقد استنفد المسلمون الآن وقبل الآن أغلب رصيد قوتهم في صراعات لم يكن لها من سبب أو محرك إلا المزاج النفسي لأهل السلطة الذين رفعوا شعار (أنا أكره كذا وكذا إذا أنا موجود)!!. يضاف إلي ذلك أن العرب علي وجه الخصوص قد بددوا ما تبقي لهم من رصيد خلال الأعوام الثلاثين الماضية حيث خاضوا خلال هذه الأعوام عدة حروب فاشلة أفضت إلي حالة فراغ في القوة تبدو الآن واضحة من خلال حالة التخبط والارتباك التي يعاني منها العرب في كل الساحات من الشمال في الشام إلي الجنوب في اليمن فلا هم شربوا عسل اليمن ولا أكلوا بلح الشام ولا هم حتي حافظوا علي سيطرتهم علي البحر الأحمر!!. حرب الهويات (إِنَّكَ يابْنَ أبِي طَالِب عَلَي هذَا الاَْمْرِ لَحَرِيصٌ. فَقُلْتُ: بَلْ أَنْتُمْ وَاللهِ أحْرَصُ)!!. يتحدث البعض الآن عن تنامي الإحساس بالهوية الطائفية وخطورة هذا علي الهوية الوطنية والقومية وهو كلام يعبر عن نصف الحقيقة فقط لا غير وكلما تمادي فريق في محاولة محو هوية (المختلف) كلما ازداد تمسك الفريق المستهدف بهويته وتشبثه بها بكل ما يملك من وسائل وأدوات. إنه درس التاريخ الذي يرفض البعض تعلمه ويصر علي ممارسة نفس الخطايا التي ارتكبها السابقون مستعينا بالتيار السلفي الذي يؤمن بضرورة تطهير الأرض من كل من يخالفه في المعتقد من أجل تحقيق هذا الهدف. يبقي السؤال الأهم: هل كان الصراع المذهبي والطائفي مسئولية فريق واحد يتعين عليه الإذعان المطلق لإرادة الفريق الآخر أم أنه كأي صراع في التاريخ له طرفان يتعين عليهما أن يجلسا سويا ويتصارحا من أجل إنهاء صراع طال واستطال ولم يكن له من مسوغ إلا وجود حاجز نفسي آن له أن يسقط وينتهي إلي غير رجعة.