بعد خيبة الأمل الكبيرة في إدارة أوباما وتلاشي الآمال في تبنيها سياسة جديدة إزاء القضية الفلسطينية والتعنت الإسرائيلي نعود إلي المربع الأول: أولوية الداخل الفلسطيني. وبعد تجربة الانقسام المرير والفئوية الطاحنة التي صدعت الجبهة الفلسطينية وأضاعت أربع سنوات غالية من النضال الفلسطيني يقف الجميع، وفي مقدمتهم فتح وحماس، أمام الأولوية التي أريد الالتفاف حولها وهي مرة أخري ترتيب البيت الداخلي. ما كان يجب أن يستنزف الجهد الفلسطيني طيلة تلك السنوات وبمحصلة نهائية تحت الصفر حتي يصل الجميع إلي النتيجة البديهية وهي أنه من دون حد أدني من التوافق الوطني فإن الجهود المتضاربة تنهي بعضها بعضا. الاستنزاف والتعب صار علي ما يبدو القاسم الوحدوي الأهم عند قيادات الضفة الغربية وقطاع غزة، وهو الذي سيدفع ويجب أن يدفع هذه القيادات لإيلاء جهود المصالحة أولوية قصوي. منذ تاريخ الانقسام المشئوم في يوليو 2007 وحتي الآن يمكن الزعم بأن المصالحة لم تكن أولوية الطرفين. السياسات الفتحاوية كانت تسير في اتجاه المحافظة علي السيطرة علي الضفة الغربية حتي لا يتكرر فيها ما تكرر في قطاع غزة، والسياسات الحمساوية كانت تسير في اتجاه بناء سيطرة مطبقة علي القطاع لا يسمح بعودة الأمور إلي ما كانت علية قبل سيطرة حماس. مع قدوم أوباما إلي الحكم عم تفاؤل كبير في أوساط السلطة في رام الله بأن تغييرا جديا يحدث في واشنطن قد يقود إلي تغيير وقائع أساسية في الصراع مع إسرائيل، ينعكس علي طبيعة العلاقات الداخلية، يقوي من خيار التسوية ويضعف حماس. التوتر الذي ساد والخشية من تكرار سيناريو غزة دفع بالضفة الغربية إلي أوحال الحل الأمني الذي أفرز حالة مُحبطة عمادها القمع الأمني الذي لا يتورع عن أية ممارسة بدعوي الحفاظ علي الأمن. في المقابل كانت حماس تغوص أكثر في شبكة علاقاتها الإقليمية الإيرانية-السورية للاحتماء مما قد يكون عاصفة سياسية دولية وإقليمية جديدة قد تطيح بموقفها وبسيطرتها علي القطاع. وترافق ذلك مع قمع أمني مواز نافست فيه حماس ما تقوم به فتح في الضفة. قبل أوباما كانت حرب غزة قد أعادت، وبوحشيتها المذهلة، ترتيب الأوراق، فأثخنت حماس بالجراح رغم أنها عززت من سيطرتها الإجمالية. لكن أهم نتيجة أفرزتها تلك الحرب هي دفع "منطق المقاومة" من ثابت لا يتغير إلي مربع "منطق السياسة" الذي ثابته الأساسي التغير والتبدل. أوقفت حماس وبقية الفصائل إطلاق الصواريخ إنطلاقا من "تقدير المصلحة السياسية". وهذا تغيير إيجابي جوهره أن العقل السياسي هو الذي يجب أن يقود المقاومة وليس العكس. إذا تضخمت المقاومة أو العسكرة علي حساب العقل السياسي فإن ذلك لا يقود إلا إلي الكوارث - وتجارب التاريخ القديم والحديث حبلي بالشواهد. حصيلة السنوات العجاف ثمن باهظ دفعته القضية الفلسطينية، وفسحة زمنية إضافية مُنحت لإسرائيل لتواصل توحشها الاستيطاني والاحتلالي والادعائي للعالم بأن الفلسطينيين هم من يعيق السلام، وأن انقسامهم يعني استحالة التقدم. المهم الآن أن ثمة أملاً بأن وعياً جديدا قد تطور علي أساس المعطيات الاستنزافية البشعة علي الأرض: تراجع أوباما، غياب أوروبا، استمرار التفكك العربي، بروز ملف إيران النووي كقضية أهم من القضية الفلسطينية. بعد الدورة الكاملة ربما يستيقظ العقل الفلسطيني السياسي علي أولوية المصالحة، حيث الجهد الحقيقي يجب أن يصب. منطق الاستنزاف الذي ربما يدفع إلي المصالحة تبدي بوضوح في التصريحات الإيجابية التي رافقت زيارة نبيل شعث إلي قطاع غزة وهي خطوة بالغة الأهمية والحيوية ومبادرة كسرت الجمود وقطعت مسافة كبيرة إلي الأمام. وإذا صح أن هناك لجنة مشتركة تم تشكيلها عقب اجتماع شعث وهنية في غزة، وإذا صحت التصريحات المتعددة التي تشير إلي قرب استئناف جهود المصالحة في القاهرة أو غيرها فمن حقنا أن نتفاءل. ليس هناك أوهام هنا تقلل من العقبات التي لا تزال في الطريق، لكن يبدو أن هناك قناعة متزايدة بأنه لا بد من مواجهة هذه العقبات وعدم خداع النفس بمحاولة تفاديها. جهود مصرية علي خلفية هذه الافتراضات من المطلوب من مصر أن تبادر إلي دعوة جديدة وأن تقوم بتحرك إضافي، وأن تتجاوز الموقف الذي أعلنته بشأن "الورقة المصرية" التي تهدف في الحقيقة إلي تحقيق المصالحة وفق الحد الأدني من التوافق، وليس الفرض الفوقي، ومن حق فتح أو حماس وكل الفصائل مواصلة تحسينها للوصول إلي صيغة مقبولة تشكل أرضية انطلاق معقولة. معظم المتابعين لتفاصيل وحيثيات جهود المصالحة والبنود المتفق والمُختلف عليها يقولون بأن مسافات كبيرة قُطعت وأن إمكانيات الوصول إلي قواسم مشتركة تزايدت. وفي نفس الوقت علي حماس ألا تعتقد أن "الورقة المصرية" هي نهاية العالم وأن تنازلها عن هذا التحفظ أو ذاك معناه كارثة وطنية. الكارثة الحقيقية هي في استمرار الانقسام وفي ظله استمرار التوحش الإسرائيلي والاستيطان وتهويد القدس. كم هو الجهد العملي والواقعي والفكري والذهني والسياسي الذي تبذله حماس وفتح ضد الاستيطان وتهويد القدس إذا ما قارناه بالجهد المبذول للمحافظة علي المصالح الفئوية والسيطرة الخاصة بهذا أو ذاك؟ ليس هناك معني عملي كبير للتصلب في الألفاظ والرطانة في حين أن الواقع يتدهور بشكل مذهل. علي الورق يستطيع أياً كان أن يكتب نصوصا تهزم كل الأعداء..وتُفرحهم في نفس الوقت لأنها لا تتعدي الورق. الأهم من النصوص والشعارات هو ما يحدث علي الأرض. أي جهد يوقف بناء مستوطنة، أو تهويد بيت في حي سلوان أهم من مليون كلمة تؤكد هذا الشعار أو ذاك.