كل الذين اثروا في وجداننا منذ الصغر، تغيروا، معلمو الفصول ونظار المدارس والأصدقاء والجيران، حتي الآباء تركونا ورحلوا، عدا أمين ريان. ظل ثابتا قائما مستمرا في وجداننا وعقولنا، لم يكن مجرد فنان تشكيلي يبهرنا بلوحاته، أو أديب نتناقش حول أسلوبه وطريقه عرض فكرته، بل هو أب وفنان تشعر اننا نعرفه وتربطنا به علاقة قرابة وصلة رحم. لذلك فبيني وبين عم أمين ريان، نصيحة ونصف قرن ومعركة، والنصيحة تتكرر كل يوم منذ أن تعرفت عليه، يرفع سماعة التليفون ويقول بصوته المحمل بخربشة سنوات: شغال يا ولد، كتبت إيه النهاردة، حاول أن تقرأ أزهار الشر لبودلير، أما النصف قرن من الزمان فهي تجربته واعتقاله وحياته، وأنا مازالت في البواكير، كما انني لا أحب ان أخوض تجربة اعتقال، ولا يبقي غير المعركة والتي سوف أتحدث عنها لاحقا. منذ ان رأيت عم أمين ريان، بقامته النحيلة ووجهه المستدير المنتشرة به التجاعيد التي تدل علي العمر والتجربة وشعر ذقنه الأبيض النابت ونظارته المايلة علي أرنبة انفه وحركته البطيئة في الترحيب والاستقبال، وقد شعرت انني أمام (سانتياجو العجوز) بطل أرنست هيمنجواي في العجوز والبحر، والذي تخلي عنه الحظ طوال أربعة وثمانين عاماً، وها قد التقيت به في اليوم/ العام الخامس والثمانين والذي سوف نحتفل به قريباً. خمسة وثمانون عاما والحظ يعاند أمين ريان، ولكنه يكتب، يخنقه العمل البيروقراطي فيكتب، ندخله المعتقل فيكتب، نضع علي رأسه كل الهموم والمصائب، فيضحك ويكتب، ومنذ ان قابلته وهو يحاول معرفة سر التقائي به في هذا الوقت من العمر، فيضحك ويقول: يا ولد ما جاء بك في هذا الوقت، فأنا وزوجتي في انتظار الموت، لكن الموت لن يأتي الآن يا عم أمين، وحظك لم يبتسم لك بعد، كما ان هذه هي الحياة، والموت يأتي للضعفاء، وعم أمين بحركته البطيئة البسيطة وابتسامته وسخريته يظل أخر الأشخاص الأقوياء الذين يهتمون بنا، نحن الأجيال الجديدة في بحر الأدب، يتصل كل يوم ويقول: إيه الأخبار، شغال، بتكتب، بتسأل علي أمك، مفلس، وهكذا يظل عم أمين بالنسبة لي الأب الذي رحل مني في غمضة عين. عندما ذهبت إلي شقته بحي الزيتون، فوجئت بأنني قد دخلت متحفاً صغيراً، فجميع غرف الشقة: عبارة عن مكتبة ضخمة من الأرض للسقف، وعلي تلك الأرفف وضعت لوحاته والتي يوجد عليها تواريخ منذ أربعينات القرن الماضي، كما يوجد بعض اللوحات الحديثة والتي يطلق عليها لوحات للتمارين حتي لا تفقد أنامله الإحساس بالريشة أو القلم. أنامل الفنان التشكيلي منذ بداية حياة عم أمين ريان، دائما يضع القدر في طريقه العظماء، والذي تعلم واستفاد منهم كثيراً، فنجده درس علي يد الأستاذ الفنان الكبير أحمد صبري، والذي كان يرعي مشروعه، وتنبأ له بمستقبل فني كبير، وكان مشروع تخرجه هو لوحة شم النسيم التي بدت مبشرة بمولد فنان متميز، ثم اشترك - أمين ريان - في أول مهرجان في حياته وهو معرض ( مختار ) بفندق الكونتيننتال وتحت رعاية السيدة هدي شعراوي وكان ذلك في عام 1943، وفازت لوحته ( عودة الحجاج) بالجائزة الأولي، والتي اشترتها السيدة هدي شعراوي بمبلغ 30 جنيها، وكان مبلغاً كبيراً في ذلك الحين. وفي العام التالي مباشرة حصل علي الجائزة الأولي عن لوحة ( مبيع الدقيق )، وهي لوحة تعبر عن أزمة الخبز، التي كانت أكثر هموم المجتمع في ذلك الوقت، وكانت تعكس عناية الفنان أمين ريان بقضايا ومشكلات مجتمعه في تصوير لوحاته الفنية، وقد اشتري والد الملكة فريدة ملكة مصر في ذلك الحين، لوحة ( مبيع الدقيق ) بمبلغ لا يذكره أمين ريان لأن والد الملكة لم يدفعه أصلاً، وبذلك اختفت لوحة ( مبيع الدقيق). وتظل لوحة ( الشهيد ) من أكثر اللوحات المحببة إلي قلبه وأقربها إليه، وهي تحمل ذكريات أيام مجيدة في عمره وعمر الوطن، حيث انه رسمها أثناء فترة العدوان الثلاثي علي مصر، وكان ضمن مجموعة من الفدائيين المدافعين عن الوطن، وكان يريد أن يعبر عما يتعرض له الوطن من نهش القوي الكبري، وكانت الأضواء مقطوعة عن مدينة بورسعيد، فاضطر أمين ريان إلي رسمها في الظلام، مستدلاً بروحه ومعاناته ومعاناة الشعب المصري علي الأماكن التي يضع فيها الألوان والخطوط. وعندما أحاول ان اذكر له انه قد همش هو وفنه وإبداعه، وانه كان يستحق الكثير من البريق الإعلامي والشهرة والمادة، يضحك عم أمين في عذوبة ويقول في دهشة: أنا لم أهمش فأنا أحب ان أعرض لوحاتي في بيتي، وذلك ليس تهميشاً، كما أن عشاق الفن يأتون لمشاهدة لوحاتي ويتواصلون معي، وهم من جميع الأجيال. أنامل الأديب يملك أمين ريان كماً هائلاً من الحكايات الجميلة التي تخص كل لوحة رسمها، وكل جدار في بيته، وكل كتاب في مكتبته، وكل شخص قابله علي مدار 84 عاماً، كما يملك ذخيرة هائلة من الفن الذي لا ينعكس فقط في لوحاته، إنما في نظرته للحياة، وفي تعامله مع الناس وفي تبنيه للمواهب الشابة. وقد تميزت أعماله القصصية، بتفجرها بالحركة وبحثها الدائم عن أشكال جديدة لا تخلو من المغامرة الفنية، واستخدم في كتاباته أدوات السرد الحديث، وجعل الجملة الحوارية تبدو جزءاً من السرد، كما تعددت اللغات والمنظورات في كتاباته، واشتهر بالحس الفكاهي الساخر ذي المذاق الشعبي، أما الصور الجمالية لديه فتبدوا نابضة بالحياة والقوة، ويربط أمين ريان في نصوصه بين المادي والمعنوي والداخلي والخارجي، ويكثر من استخدام الصور الرمزية. وجميع أعمال أمين ريان الإبداعية تشعر ان بها شيئاً من الواقع، وهذا يظهر في أول رواية له ( حافة الليل ) والتي كانت عبارة عن مذكرات عن الموديل الفتاة أطاطا، حيث كانت الفتاة التي تعمل معه في مشروع إتمام دراسته للفن 1948، واستغرق العمل معها طوال الصيف، ومن خلال أغانيها الفلكلورية وأحاديثها عن أسرتها تمكن من كتابة قصة حياتها، وهي بنت حي بولاق أبو العلا الذي يواجه حي الزمالك حيث كلية الفنون في الضفة الشرقية للنيل، فكان الاختلاف والتباين بين الحياة علي الضفة الشرقية والضفة الغربية، والذي آثار مقارنة اجتماعية بين المستويات الإنسانية علي الضفتين، ولكن الرواية لم تصدر إلا عام 1954، بعد أن رفضتها كل الجهات الأدبية بسبب تدخل اللغة العامية في بنائها، رغم ان هذا الأمر دافع عنه يحيي حقي، من خلال دراسته للرواية، حيث كان يدافع عن الحوار اليومي باللغة المنطوقة وللأسف قابل النقاد هذه الرواية بالصمت المصطنع، بعد أن قرأها الجميع وتأثر بها البعض، كما تأثر بها الإنتاج السينمائي في الأفلام، وعندما واجه أمين ريان النقاد بتجاهلهم المتعمد، برروا صمتهم هذا بأن رواية «حافة الليل» عمل انطوائي داخل الحجرات، وكان من نتيجة هذا الحكم أن كتب روايته الثانية القاهرة 1951، وكانت تتناول نضال الفنانين التشكيليين مع عناصر الثورة من خلال شوارع القاهرة، فقد قاموا بعمل الصور والتماثيل التي تحرض الجماهير علي التحرك، وتحض الجماهير علي المطالبة بحقوقهم الاجتماعية، مما مهد لثورة يوليو 1952، وقد لاقت هذه الرواية نجاحا كبيرا وقدمت إلي السينما بأشكال مختلفة، وإن كان ضياع حقوق المؤلف والافتقار إلي الدفاع عن الملكية الفكرية قد أغفلا حق التأليف فلم تنسب الرواية إلي أمين ريان ونسبت لكتّاب السيناريو، بعد ذلك تناول حياة الناس في الحي الذي يعيش فيه في عملين، هما قصص من النجيلي والموقع. والواقع أن المرأة لها دور كبير في حياة أي مبدع، وخصوصاً عند عم أمين ريان، فإذا كانت أطاطا هي ملهمة عمله الأول، رواية (حافة الليل)، فأن المرأة هي الأمل الذي يتطلع إليه الرجل، فهي تلخص له الدوافع التي ينطلق عليها وإليها، وبالنسبة لامين ريان لولا زوجته السيدة العظيمة: زكية، والتي تستقبلك بابتسامتها البشوشة، لافتقد المخاطب وما أبدع كل هذه الروايات والقصص واللوحات، فهي التي لفتت نظره إلي أشعار بيرم التونسي، وجعلته يتذوقه، لأنها أول من قرأت بيرم في الأسرة، وتأثرت به تأثراً عميقاً وأحسنت تذوقه أدبياً، لذلك فهي تنشد دائماً أثناء تحركها في البيت: قلبي لما كانت ثومة تغني يبقي رايح جاي.. وروزا تمثلها الفني يملأ عيني ضي.. وعقلي ينخلع مني لما تكتب مي.. يا مصر دومي واتهني بالحليم الحي. المعركة والآن لم يعد أمامي غير ان أجهز لعم أمين ريان: صنارته وحباله وقاربه كي نخوض- أنا وهو - آخر المعارك وأشرسها، فاليوم/ العام/ الخامس والثمانون قد بدأ، وأتمني أن يحالفه الحظ، كما أنه قد تعب وأجهد في الحصول علي مبلغ ألف وخمسمائة جنيه شهرياً نظير العلاج، وما يحتاجه هذا الدواء من أوراق ومستندات يحتاجها الجهاز البيروقراطي، والذي تجهد فيه السيدة زوجته جدا، والذي سوف يصل نصف هذا المبلغ له حسب اللوائح حيث انه ليس من الحالات الحرجة؟؟، فأتمني أن يحالفنا الحظ، ونصطاد سمكة من أكبر اسماك بحر الأدب في القريب العاجل، والتي سوف تسعده وتفرح قلبه وتجعل زوجته تستريح، ولكني اخشي من هجوم الأسماك الضالة والمتربصة به، فيعود عم أمين ريان العجوز، يجدف بمجداف مكسور، وبجوار قاربه هيكل سمكة خال من اللحم، كي يبدأ السياح في تصويرها نظراً لضخامتها، وإذا حدث ذلك، فلا يكون في يدي غير ان اصنع من أشواك هذه السمكة، عقداً أعلقه في عنقه بمناسبة وصوله العام الخامس والثمانين، أطال الله في عمرك يا عم أمين.