منذ سنوات طويلة، لم أخرج من أحد أفلام بهذه الحالة العميقة من الشجن التي خرجت بها بعد مشاهدة الفيلم البريطاني «Anoshea year» أو «عام آخر» الذي كتبه وأخرجه المخرج الكبير «مايك لي» لا.. ليس هذا الحزن وإنما الشجن، أو تلك الحالة التي تجعلك تشعر بالحنين الجارف لذكري أو لصديق ولمكان، وقد تدفعك إلي أن ترفع سماعة التليفون لتأتنس بصوت لم تسمعه منذ فترة طويلة، أو ترغب في أن تجتمع مع زملاء الدفعة الذين باعدت بينهم الأيام، حالة مركبة من الاحتياج العاطفي لدفع شعور غير مرئي بالوحدة ينهش في الروح ويقلقها، إنها بالضبط الحالة التي رسمها الفيلم الكبير الذي عرض في المسابقة الرسمية بمهرجان كان 2010، شخوص لا تظهر تقريبًا بمفردها، ولا تتوقف ابدًا عن الكلام والثرثرة والضحك والأكل والشرب، ولكنها في الحقيقة تشعر بطوفان الوحدة بسبب تقدم السن، أو نتيجة فقدان الأصدقاء بالموت، أو لأنها لم تحقق ما كانت تحلم به، وفي كل الأحوال، ليس أمام هذه الشخوص سوي أن تتلاصق معًا مثل الخرفان التي يطاردها ذئب لا يرحم، ليس أمامها سوي أن تحتمي بالصداقة، وبالأسرة، بل وبالأشياء الصغيرة لتؤنس وحشتها، ومع ذلك يظل الاحساس بالشجن النبيل قائمًا ليضفي طابعه الرمادي علي كل حركات هذه السيمفونية البديعة. ليست لدينا حكاية تقليدية لها بداية ووسط ونهاية، ولكن لدينا عدة شخوص «رجال ونساء معظمهم تجاوزوا مرحلة الشباب» يجتمعون ويفترقون، يتابعهم المؤلف المخرج راسمًا «بورتريهًا» إنسانيا لكل واحد منهم علي مدار أربعة فصول تمثل عامًا كاملاً: الربيع والصيف والخريف والشتاء، نحن - إذن- أمام فيلم شخصيات بامتياز، ورغم أن الفصول تتغير إلا أن الهم الإنساني والوجودي واحد، إنه ذلك الشعور المؤرق بأن تكون وحدك، أن تستيقظ فجأة فلا تجد أحدًا يكلمك، الزمن يمر ولكن أبطالنا مازالوا في أماكنهم، ومازالوا يناضلون ضد الوحدة، اللوحات المكتوبة فقط هي التي تنبهنا أننا بدأنا فصلاً جديدًا، كل فصل ينتهي باختفاء تدريجي بطيء وكأن ستارًا يهبط علي الشخصيات، أما وسيلة التعبير الأولي فهي البوح والكلام والثرثرة، وبناء الحوار في فيلم «عام آخر» يحتاج إلي دراسة خاصة لأنه قد يبدو- أمام النظرة المتعجلة - أقرب إلي الثرثرة العشوائية، ولكن «مايك لي» المحترف والبارع حقق به أكثر من هدف: التعبير عن آلام شخوصه ومعاناتهم، واعتبار أن الثرثرة- مجردة الثرثرة - هي وسيلة للونس الإنساني أي أنها شيء أقرب إلي صرخات الدجاج في حظيرة واحدة استشعارًا لخطر قريب، ثم أن هذا الجانب الحواري الذي يقترب أحيانًا من اللامعني يؤكد الطابع الساخر للفيلم كله، هؤلاء بشر لا تنقصهم الأموال ولا الحياة المعقولة اقتصاديا، ومع ذلك فهم يفتقدون أشياء ما داخلية تتعلق بالعواطف والمشاعر والأحاسيس، الحوار الطويل في «عام آخر» في صميم معني الدراما والفيلم الذي يقول لنا إن الناس تتحدث وتأكل وتقدم بالانشغال بتفصيلات صغيرة جدًا لمجرد أن تدافع عن نفسها، وكي تقهر مخاوفها من الوحدة والوحشة القاتلة. لدينا لوحة واسعة تستوعب عددًا كبيرًا من الشخصيات، ولكن لدينا شخصتين مثاليتين تجتمع عندها كل الخيوط، «توم» «جيم برودنبت» وهو مهندس جيولوجي عجوز، وزوجته «جيري» «روث شين» وهي مستشارة طبيبة نفسية، الاثنان يكونان أسرة سعيدة مستقرة مع ابنها الشاب «جيم» الذي يعمل محاميا، أراد لي أن تكون هذه العائلة المثالية بشكل مفرط وسيلته لابراز عدة أمور: إظهار التباين الصارخ بالمقارنة مع شخصيات أصدقائهم القعلة وتحويل الزوجية وأحيانا الابن - إلي ما يقترب - من الطبيب النفسي الذي يستمع إلي هموم بقية الشخصيات ثم أن العائلة النموذجية هي أحد الأدوية التي يقترحها مايك لي لمواجهة الوحدة القاتلة كما أنها تمثل فكرة الصداقة وهي دواء آخر ناجح في أعلي صورها أتفهم تماما كل هذه الأسباب القوية رغم أنني لم ابتلع أبدا هذه الحياة النموذجية المفرطة إنها مثالية بدرجة غير إنسانية إن جاز التعبير لم يكن من الصعب أن تكون في شخصيات أسرة توم وجيري بعض التضاريس والمشكلات فقد كان ذلك أفضل للدراما رغم أن السخرية واضحة جداً في اختيار اسم أشهر قط توم وأشهر فأر جيري لزوجين يعيشان سمنا علي عسل طوال الوقت! في مقابل هذه العائلة النموذجية توجد مجموعة الشخصيات القلقة من الأقارب والأصدقاء وفي مقدمتهم ماري الرائعة ليزي ما يفيل في دور عمرها هذه الشخصية هي النموذج الأهم والأروع والأجمل في كل ما شاهدت من أفلام تتحدث عن تلك المرأة الوحيدة التي تقدم بها العمر، ماري زميلة عمل منذ عشرين عاما مع جيري ولكنها عكسها علي طول الخط متوترة طوال الوقت لا تجيد الطهي تزوجت في سن مبكرة وطلقت وأحبت رجلاً متزوجا فواجهت فشلا جديدا تنظر إلي كل رجل علي أنه عريس محتمل حتي عندما تعثر علي رجل أكبر منها سنا تكتشف أنه يريد امرأة أصغر سنا نراها تحاول أيضا مع جيم رغم أنها في سن والدته ونراها تأكلها الغيرة علي جيم عندما يعود بصديقة أحبها اسمها كايتي ليست مشكلة ماري جنسية ولا حتي في مجرد أن تتزوج مشكلتها أعمق بكثير إنها امرأة معلقة في الهواء وبلا جذور لديها شعور عميق بالوحشة والوحدة لا يمكن القضاء عليه إلا بأن تحب من جديد ليس أي رجل والسلام وإلا استسلمت ل«كين» بيتر ويت وهو أحد الأصدقاء البائسين تهرب أحياناً للاهتمام بشيء فتشتري سيارة رديئة ثم تبيعها في النهاية بعد أن فشلت في أن تشعرها بالسعادة علاقتها بأسر توم وجيري هي المخدر الذي تستعين به علي استكمال حياتها. ومن أصدقاء العائلة أيضا كين الذي يرفض التقاعد من عمله ببساطة لأنه لا يعرف بالضبط ماذا يمكن أن يفعل بعد ذلك شعوره بالوحدة مصدره الإحساس بهروب العمر دون زواج وفقدانه ل«جوردون» أحد أقرب أصدقائه ووسيلته للعزاء تناول الخمور والانتقال من حانة إلي أخري لم يكن ممكنا أن تقبل به ماري وإلا أصبحنا أمام زواج اثنين من الغرقي ولكن الفيلم يفتح الباب أمام علاقة محتملة بين ماري وروني وهو شقيق توم العجوز الذي توفيت زوجته روني أيضا يعاني من الوحدة بعد وفاة زوجة لم يحسن معاملتها وبسبب خلافات مع ابنه الشاب كارل أدت إلي ما يشبه القطيعة، إذ كانت وفاة الأم سبب اللقاء الذي جدد الشجار! لا يكتفي مايك لي بهذه الشخصيات ولكن يضع حولها مجموعة من الشخصيات الثانوية التي تكاد تقدم تنويعات علي نغمة الوحدة والإحساس بالوحشة أهمها الشخصية المهمة التي يفتتح بها الفيلم وهي جانيت الممثلة الكبيرة اميلدا ستانتون هي سيدة أيضا تجاوزت الشباب مشكلتها أنها لا تستطيع النوم لديها زوج يشرب وابن مقيم معها وابنة لا تزور الأب والأم إلا عند الحاجة تستقبلها جيري لنكتشف أن السيدة علي اعتاب الاكتئاب أو هي مكتئبة بالفعل أنها حتي لا تتذكر يوما واحدًا سعدت فيه جانيت ستختفي تماماً بعد ذلك ولن نعرف مصيرها، ولكنها ستكمل لوحة الوحشة والاغتراب الذي تعانيه الشخصيات، تماماً مثل العجوز الهندي الذي يدافع «جيم» عنه حتي لا يتم ترحيله من بريطانيا، نظرات العجوز لا تختلف عن نظرات طفل تائه يقاوم المجهول المفارقة الاساسية، أحد مفاتيح الفيلم أن المؤلف يتعامل مع رقم 2 طوال الوقت، وتتكرر معلومات كثيرة في الحوار، تدور حول رقم 2، واللقطات التي تظهر فيها أي شخصية بمفردها معدودة، والعلاقات ثنائية طوال الوقت رغم أن المعاناة سببها الوحدة: «توم» مع «جيري»، و«جيري» مع «جانيت» و«جيري» مع زميلتها الطبيعية «ثاني»، وثاني مع طفلها أثناء الحمل وبعد الإنجاب، و«توم» مع «روني»، و«توم» مع «كين»، والعجوز الهندي مع شابة يبدو أنها ابنته، و«ماري» مع «جيري»، و«ماري» مع «كين» ثم مع «جيم» ثم مع «روني»، و«جيم مع «كايتي» وأحياناً يجتمع في كادر واحد سبعة أو ثمانية أصدقاء ويتناولون الطعام ويتحدثون ويثرثرون وتختلط أصواتهم ومع ذلك لا نفقد أبداً هذا الشعور بأنهم - باستثناء أسرة «توم» و«جيري»، ذات المثالية المفرطة- يعانون من القلق والوحشة، إنها سخرية لاذعة تظلل السيناريو كله، وأظن أن أسرة «توم» و«جيري» تثير السخرية أيضاً لتناقضها الواضح مع أصدقائها وأقاربها التعساء! ومثل «توم» الذي تخصص في حفر الأرض وصولاً إلي أعماقها، يعمل «مايك لي» بدأب وصبر علي حفر النفوس وصولاً إلي أدق العواطف والمشاعر خاصة في الرسم البديع لشخصية «ماري»، الطعام والثرثرة وحتي اللعب وسائل مستمرة لمواجهة الوحدة، «كين» يأكل ويشرب بشراهة ويذهب للتشجيع وسط الجمهور حتي لا يظل وحيداً، إنه حتي يركب المترو إلي عمله رغم أنه يستطيع المشي حتي يكون وسط الناس، لوحة هائلة نسجت باقتدار وقام بتشخصيها مجموعة من أعظم المشخصاتية تتقدمهم «ليزلي مانفيل» في دور «ماري» الذي لا ينسي، لا يمكن مقارنة هذه الممثلة الشامخة في قدرتها علي الانتقال بين أعقد التعبيرات إلا بالممثلة الأمريكية المخضرمة «ميريل ستريب»، الحقيقة أن الممثلين الأكثر براعة هم الذين لعبوا الشخصيات الأقوي في معاناتها مثل «بيترويت» في دور «كين» والعظيمة «إميلدا ستانتون» في دور «جانيت» الذي استغرق مشهدين فقط، طبعاً لا نستطيع أن نغفل أستاذية «مايك لي» في إدارة ممثليه، كل مشهد يستحق الدراسة في بنائه وفي قطعاته وفي ضبط التعبيرات الدقيقة حتي في اللقطات التي تضم عدة شخصيات، الاقتصاد الكامل في استخدام الموسيقي التصويرية عميقة الشجن من تأليف جاري يرشون، الانطلاق أحيانًا إلي مساحات مفتوحة تخفيفًا من حوارات الأماكن المغلقة، الألوان التي أصبحت رمادية وكابية مثيرة للانقباض في الجزء الأخير من الفيلم، كل شيء تحت سيطرة كاتب بارع ومخرج كبير. يبدأ الفيلم بوجه امرأة هي «جانيت» تعاني من الوحدة والاكتئاب توجه لها النصيحة لاستشارة جيري وينتهي الفيلم بوجه امرأة هي ماري تعاني من الوحدة رغم صخب الجميع، وكانت «جيري» نفسها قد نصحتها بطبيب نفسي، وبين الوجهين صخب وثرثرة وطعام وموت وبكاء وضحك وطفل يولد وشمس تشرق وجليد يغطي الأرض، ويظل مع ذلك الإنسان وحيداً يحلم بالونس، أو كما تقول «ماري» عند لقائها مع روني «من الرائع أن تتكلم مع إنسان»!