لنقرر ابتداء أنه لا يكاد يوجد مجتمع في العالم راض كل الرضا عن نظامه التعليمي حتي في أكثر دول العالم تقدما. وإذا كان الأمريكيون قد اعتبروا أنفسهم يوما أمة في خطر بسبب نظام التعليم فمن الطبيعي أن يكون قلقنا أكبر. وثمة سلبيات ومشكلات تعليمية وتربوية لا يخلو منها مجتمع في العالم لكن للتعليم في مصر همومه الخاصة به والتي لا نكاد نجد لها نظيرا في العالم كله. أحسب أن لدينا ظاهرتين عجيبتين تنفرد بهما مصر عن مجتمعات الدنيا بأسرها, وهما ظاهرتا الكتاب الخارجي والدروس الخصوصية. وهما ظاهرتان تشبهان الورم الخبيث الذي ينخر في جسدنا التعليمي. لقد كتبت منذ عام وقبل مجيء الدكتور أحمد زكي بدر وزير التربية والتعليم لكي أدق جرس الإنذار بشأن خطورة ظاهرة مصرية فريدة تسمي بالكتاب الخارجي. وهي ظاهرة يجب أن يحظي وزير التعليم في معالجتها بمؤازرة المجتمع كله. تحاول وزارة التربية والتعليم الحصول علي نسبة عادلة من الأرباح الطائلة لجماعات و'لوبيات' الكتب الخارجية مقابل حقوق الملكية الفكرية, لكن أصحاب دور النشر يرفضون ذلك مراهنين علي سلوك أولياء الأمور وحاجة التلاميذ لهذه الكتب الخارجية التي تفوقت علي الكتاب المدرسي ثقيل الدم والوطأة وركيك الإخراج والطباعة والذي لم تجد حتي اليوم محاولات تطويره التي نسمع عنها منذ كنا صغارا وكأن أحدا صاحب مصلحة في الإبقاء علي حال الكتاب المدرسي علي هذا النحو. لكن الأزمة التي يعاني منها نظامنا التعليمي تبدو في الواقع أبعد وأعمق من هذا الخلاف المالي الكبير. فالأزمة التي بلغت حد الورم الخبيث أن لدينا في مصر كتبا مدرسية حكومية تتولي الوزارة أمر تأليفها وطباعتها وتوزيعها بما يكلفها مليارا ومائتي مليون جنيه بحسب الأرقام المعلنة. لكنها كتب تعلم الوزارة يقينا وتدرك كل أسرة مصرية أنها ذات استخدام صوري لا يعتمد عليها التلاميذ في واقع الأمر, لأن هناك كتبا أخري خاصة تنافسها وتتفوق عليها شكلا وطباعة ومحتوي ومنهجا وتبسيطا. السؤال هو إلي متي تستمر هذا الازدواجية الخبيثة في جسدنا التعليمي؟ فمن غير المعقول أن تنفق الوزارة هذه المبالغ الهائلة علي الكتاب المدرسي الحكومي الذي يتجاهله تلاميذنا كلية لأنهم يعتمدون جهارا نهارا علي وسيلتي الكتاب الخارجي وملخصات الدروس الخصوصية؟ هذا واقع غير مفهوم يحتاج لأن نناقشه ونتعرف علي مختلف أسبابه وجوانبه, وأول ذلك أن نجري دراسة ميدانية واستطلاعات رأي جادة وحقيقية حول آلية التحصيل العلمي التي يفضلها تلاميذنا ولماذا؟ نريد أن نعرف كم في المائة من تلاميذنا ما زال يعتمد علي الكتاب الرسمي وكم منهم يلجأ للكتب الخارجية وملخصات الدروس الخصوصية؟ أعتقد أن أي استطلاع للرأي يتسم بالمصداقية والجدية سيؤكد لنا الحقيقة التي نلمسها ونعايشها جميعا في بيوتنا, وهي أن الكتاب المدرسي أصبح منذ سنين مجرد مظهر شكلي للإستيفاء لا أكثر تنفق عليه الدولة مليارا ومائتي مليون جنيه في' الهواء'! قد يري البعض أن هذا الكتاب الرسمي هو أداة التحصيل التي يعتمد عليها المدرسون في الفصول الدراسية لكننا مرة أخري نعلم للأسف أن الحصص المدرسية باتت أقرب إلي' الديكور' بفعل الورم الخبيث الآخر المتمثل في الدروس الخصوصية. في ظل هذا المشهد الحالي علينا أن نتحلي بالشجاعة والواقعية لنختار أحد طريقين: الطريق الأول أن تقوم وزارة التربية والتعليم بعملية تحديث جذري وشامل للكتاب الرسمي بحيث تجعله يتفوق علي الكتاب الخارجي, وهو أمر ليس مستحيلا لو أرادت الوزارة لأن الكتب الخارجية التي يتكالب عليها تلاميذنا ألفها مصريون وطبعت في مصر. يمكن للوزارة أن تفعل ذلك حتي لو تحملت في سبيله دفع مقابل عادل ومحفز لمؤلفين علي درجة عالية من الاحتراف والكفاءة بل حتي ولو أدي ذلك إلي أن تتعامل هي-أي الوزارة- مع مؤلفي الكتب الخارجية أنفسهم وتسعي لاستقطابهم وتدفع لهم ما يحصلون عليه من دور النشر الخاصة. وبهذا الأسلوب تضع الوزارة حدا لكتاب رسمي منفر لا يستخدمه أحد تنفق عليه مليارا ومائتي مليون جنيه هباء. الطريق الثاني أن تقرر الوزارة في خطوة شجاعة وواقعية اعتماد بعض الكتب الخارجية أو كلها مقابل نسبة مالية تحصل عليها من دور النشر الخاصة وتقوم بإلغاء الكتاب المدرسي لتوفر بذلك علي نفسها مبلغ المليار والمائتي مليون جنيه. وفي الحالتين فإن الوزارة ستنجح في ترشيد الانفاق وتوظيف هذا المبلغ الكبير لتلبية احتياجات أخري للعملية التعليمية. ربما تكون هناك حلول أخري لمشكلة الكتاب الحكومي أفضل من هذين الحلين. المهم أن نبدأ بعلاج هذه الازدواجية المقيتة التي أفرزت سلبيات أخري عديدة. فقد اقترن الكتاب الحكومي تماما مثل الأبنية التعليمية بمجموعات مصالح وقوي شرسة تدافع عن' سبوبتها' ومصالحها الأنانية وآخر همها هو مصلحة الوطن أو قيمة العلم أو رسالة المدرسة. كما لجأت وزارة التربية والتعليم في عهود سابقة إلي طباعة الكتب المدرسية بمبالغ هائلة في مطابع بعض الصحف الحكومية مما حدا بهذه الصحف أحيانا إلي محاولة كسب رضاء المسؤولين في وزارة التعليم ولو علي حساب الدور الذي يجب أن تؤديه الصحيفة في ممارسة النقد وكشف السلبيات التعليمية حفاظا علي ما تجنيه من أرباح طائلة بسبب طباعة ملايين النسخ. وهذا واقع معروف يكاد يمثل حالة من حالات تضارب المصالح الذي يعاني منه مجتمعنا في أكثر من مجال. خلاصة الأمر أننا مطالبون بإعادة الاعتبار إلي الكتاب الحكومي شكلا ومحتوي ومنهجا وتبسيطا. هذا الكتاب الذي ما زالت أجيال متتالية تحفظ عن ظهر قلب ما كان مدونا علي غلافه الأخير من عبارات توقظ الانتماء والأمل في وجداننا وتغرس القيم والمثل في عقولنا. نحتاج اليوم بأكثر من أي وقت مضي إلي كتاب حكومي يقوي من وحدة النسيج الوطني لأبنائنا بدلا من هذا الانحدار المريع بالاعتماد علي أوراق مذكرات وملخصات توزع في أوكار الدروس الخصوصية. ملخصات وأوراق لا يمكنها أن تشبع احتياجا تربويا أو معرفيا ولن تنمي خيالا أو تثري وجدانا ولن تغرس انتماء لأنها ببساطة تفتقر هي وأصحابها لكل هذا معا. ففاقد الشيء أبدا لا يعطيه! المزيد من مقالات د. سليمان عبد المنعم