كنت صبيا في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات من القرن الماضي حين كنت أحضر مباريات كرة القدم القومية المصيرية في ملعب القاهرة الدولي وأشاهد محمد نوح وهو يقود التشجيع ويلهب حماس الجماهير بالمدرجات بهتافاته وأغنياته، سواء "شدي حيلك يا بلد" أو غيرها.. وكنت أتعجب وأتساءل: من أين يأتي الرجل بكل هذا الحماس البادي - بكل الصدق - علي وجهه وفي خلجات صوته؟ لا يمكن أن تستمع إلي نوح دون أن تؤكد في كل مرة أنه يغني من قلبه، ولا تفسير لذلك سوي الصدق، فقد كان صادقا فيما يلحن وفيما يغني ومؤمنا بكل حرف اختار أن يلحنه أو يغنيه، وهو ما كان يفتقده الكثيرون من أصحاب "الصوت الحلو" الذي كان ينقصه هو باعترافه، حيث كان قوله المأثور الذي يردده دائما: "أنا مغن ولست مطربا". ولأنه صادق، فقد كان المتلقي يصدق كل حرف صادر عنه.. كما كان حماسه ينتقل بالعدوي لمستمعيه ومشاهديه فيتحمسون مثله، وهذا هو - في رأيي - سر النجاح المدوي لأغنيات مثل "شدي حيلك يا بلد" و"من صغر السن"، وسر نجاحه كممثل عندما وقف علي المسرح ليقدم مسرحيات غنائية مثل "سيد درويش"، وعندما وقف أمام كاميرات السينما ليقدم دور الفلاح الأصيل في فيلم "الزوجة الثانية"، أو دور الصياد ابن البلد في فيلم "السيد البلطي". محمد نوح (8 يناير 1937 - 5 أغسطس 2012) هو مرادف الحماس، وبرحيله قبل أيام متأثرا بآلام قلبه وبآلام الحزن علي ما تشهده مصر هذه الأيام، مات الحماس الصادق في الفن، وغاب الغناء الوطني الخالص لوجه الله والوطن من دون مزايدة ولا ادعاء ولا معان فجة سخيفة من نوع ما نُبتلي به في معظم أغنياتنا الوطنية الأخري، والذي يساهم - في رأيي - في تغييب المصريين عن قضاياهم الوطنية الحقيقية وليس تنبيههم إليها كما هو مفروض ومطلوب منها، بعكس دول أخري تحقق أهدافها وتحشد مواطنيها دون أغنيات وطنية سخيفة. الإسرائيليون مثلا لا يغنون لفلسطين، بل يلتهمونها فقط قطعة بعد الأخري، ولا للقدس، بل يحتلونها ويغيرون من هويتها الثقافية والديموجرافية، ولا للأقصي، ورغم ذلك يفعلون به ما يشاءون ويحفرون تحته من أجل هيكلهم المزعوم.. لم نسمع يوما إسرائيليين يقولون: "آخر كلام عندنا.. القدس دي أرضنا"، لأنهم يتعاملون معها علي أنها أرضهم من دون غناء.. نحن فقط الذين نغني ونقول، وكأن أحدا سيسمعنا أو يعيرنا اهتماما.. لنقل كما نشاء آخر كلام عندنا، فلا أحد يهتم بكلامنا أصلا آخره أو أوله، ولا أحد سيقيم لنا وزنا حتي لو ظللنا نغني ستين عاما أخري مثل سنوات الخيبة الستين السابقة.. ربما أكون مخطئا، ولو أن هناك من يعرف أغاني وطنية إسرائيلية من نوع: "إسرائيليتنا حماها الله"، أرجوه أن يبلغني ويصحح لي، ولو أن هناك من شاهد إسرائيلية تتثني وتغني: "إسرائيل هي أمي وبحيرة طبرية جوه دمي"، أطالبه بأن يرسل لي السي دي فورا. في حدود معلوماتي، لا يوجد شعب في العالم يغني لوطنه ليل نهار كما نفعل.. لا يوجد في فرنسا مثلا أغنية اسمها "ما شربتش من سينها" (نيل فرنسا هو السين)، ولا يوجد في الولاياتالمتحدة من ينشد "يا حبيبتي يا أمريكا"، ولا يوجد في روما من يردد: "أصله ما عداش علي إيطاليا".. كل البلاد تكتفي بنشيدها الوطني فقط، لا تنهمر سيول الأغاني الوطنية إلا عندنا، وأحيانا في لبنان، الذي ظلت فيروز تغني له حتي أصابها الاكتئاب وأصاب لبنان التمزق.. ومن يعرف أي فائدة للأغاني الوطنية التي أنشدتها فيروز، وكذلك ماجدة الرومي، عليه الاتصال بنا.. صحيح أنها جميلة، لكنها لم تمنع الحرب الأهلية ولا سلسلة الاغتيالات البشعة ولا الخلافات السياسية المستعصية علي أي تسوية. أما مطربونا نحن فما شاء الله.. لا يؤثر فيهم شيء، ولا يصابون بشيء، لا بالاكتئاب ولا حتي بالبرد، بل يظلون عشرات السنوات يرقعون بالموال علي رأي صلاح جاهين من دون أن يهتز لهم جفن، أو تبيض لهم شعرة، هم دائما علي أهبة الصبغة والماكياج والسشوار ليظهروا في أبهي "حلة" في ويمسكوا بالوطن وينزلوا فيه غناء بلا رحمة. ما يغيظ فعلا أن كل ذلك بلا جدوي، وأننا لا نقدم شيئا للوطن سوي الغناء.. ولو كانت بلادنا سويسرا أو ألمانيا لكان من حقنا أن نغني لها كما نشاء، لكن مصر تصرخ من الفساد والزبالة والدروس الخصوصية ونحن نخرج لها ألسنتنا ونقول لها: خذي ألحانا وكلمات تافهة بدلا من العمل والإنتاج.. أي باختصار: ضجيج بلا طحين، وحنان بلا ثدي. وقد عرف المطربون العرب، الساعون لدخول عالم الشهرة والنجومية من الباب المصري، كلمة سرنا ومفتاحنا، ولذلك غنوا جميعا لمصر حتي يحصلوا علي الرضا والجماهيرية.. وعن نفسي ظللت لسنوات طويلة أتساءل: لماذا تغني عليا التونسية لمصر وتقول: "مانقولش إيه إدتنا مصر ونقول هندي إيه لمصر".. ولماذا لا تشغل نفسها بما يمكن أن تقدمه لتونس؟ لكننا طيبون ونصدق، وقد صدقناها وصدقنا من غنوا علينا قبلها وغنوا علينا بعدها حتي جيل نانسي عجرم التي غنت "أنا مصري" قبل أن تغني أي شيء للبنان. وكثيرا ما تنتابني رغبة حقيقية في تحية ماهر عواد وشريف عرفة وبهاء جاهين ومودي الإمام، الذين كانوا أول من أدان تفاهة وابتذال أغانينا الوطنية، وقدموا سخرية نبيلة وجميلة منها في رائعتهم "سمع هس".. فلحن الأغنية في الفيلم مسروق من اثنين من عوالم الشوارع والأفراح الشعبية، والكلمات تدلع الوطن وتسميه "وطن طن"، وتقول إن "رجالته طول عمرها رجالة"، وكأن ذلك إنجاز، وكأنه من المفروض أن يتحول الرجل علي مر الأيام إلي شيء آخر.. وأؤكد أنه لو لم يكن الفيلم قد قدم الأغنية بشكل ساخر، لانضمت فورا إلي مكتبة القنوات الأرضية والفضائية لكي تصيب الناس بالزهق والصداع والضغط من فرط إذاعتها مئات المرات، خاصة قبل مباريات الكرة المصيرية، لكي تجهز علي الفريق المصري، بعكس الراحل محمد نوح الذي كان غناؤه الصادق كفيلا بتحريك الحجر. أعتقد أن نوح لم يغن إلا للوطن، حتي في أغنياته العاطفية أو أي نوعيات أخري قدمها، فقد كانت مصر دائما حاضرة في أعماله، لكنه كان "يخبئها" أحيانا وراء المحبوبة أو أي رمز آخر.. قدم لوطنه كل ما يملك: حماسه وموهبته ومشاعره وحنجرته.. كان مناضلا ثوريا حقيقيا من دون شعارات ولا ادعاءات، وبرحيله نفقد عاشقا مخلصا للوطن لم يفكر يوما في الحصول علي قطعة من الكعكة، ولا يعرف سوي لغة العطاء.