يحار الإنسان في ظاهرة تكاثر الشعراء واكتظاظ المقاهي الأدبية وصالونات الأدب بهم و قد ساهم ما يسمي بالنشر الإقليمي غير المنضبط في استشراء ظاهرة "تكاثر المتشاعرين" وخضع هذا "النشر الإقليمي" في كثير من الحالات لمعيارين وحيدين أولهما التفاهة وثانيهما أن تكون من هؤلاء الذين ترضي عنهم الأجهزة "غير الثقافية" أو علي الأقل لا تصنفهم في خانة المشاكسين من أصحاب المواقف السياسية الواضحة. لجنة للنشر الإقليمي وقد آن الأوان للتخلص من كل هذا الغثاء ولوضع معايير جديدة تعتمد شروطا حقيقية لقياس جودة النصوص، ولعلنا نلحظ تغييرا في هذا الاتجاه منذ تولي الشاعر سعد عبد الرحمن مسئولية "الهيئة العامة لقصور الثقافة" لكننا نطالبه بأن يراجع ما ينشر في الفروع الثقافية في الأقاليم وذلك بتشكيل لجنة من كبار النقاد لتقييم تجربة "النشر الإقليمي". ولعل المنشور مما يندرج تحت مسمي شعر العامية يثبت أن الأمر يحتاج مراجعة دقيقة لأن ما قرأته في الآونة الأخيرة يقطع بأن هناك استسهالا في النشر وقد قيل لي إن بعض الفروع مضطرة لنشر الأعمال التي ترد إليها بغض النظر عن قيمتها فقط لكي تستخدم الميزانيات المالية المخصصة، وعبثا نحاول أن نكرر أنه في الشعر كما في العصائر ما هو طبيعي كالفاكهة الطازجة وما هو مجرد لون ورائحة وطعم صناعي يجعل من لا يستطيع أن يفرق يعتقد أنه يستمع لشعر حقيقي تماما كما يظن من يتناول الشربات الأحمر الفاقع أنه يتناول عصير الفراولة، ولكن هذا بالتأكيد لا ينطلي علي الذين يعرفون معني الفاكهة الحقيقية، إذ ربما لا يحب إنسان ما طعم المانجو الطبيعي لكن تبقي للمانجو مكانتاه التي لا ينكرها عشاق الليمون. في الشعر أيضا قد لا تروقك القصائد العمودية لكن هذا لا يعطيك الحق في أن تقلل من قدر "المتنبي" أو من قدر الشعر العمودي، وقد لا تري في قصائد النثر ما يدفعك للقول بأنها تنتمي لجنس الشعر لكن ليس بمقدورك أن تنكر جدة و أصالة ما كتبه" الماغوط "أو" أنسي الحاج" أو ما يكتبه شعراء النثر الجيدين. وقد تجد من خريجي الأزهر والمتدينين من يهاجم شعر العامية ويعتبره سُبة في جبين العرب ولكنك قد تضبطه متلبسا وهو يردد الأغاني التي كتبها" مرسي جميل عزيز" أو "الأبنودي"، أي أنه ليس شرطا أن تتفق ذائقتك مع نوع من الفنون لكي تعترف بأنها فنون حقيقية وهذا ما يجب أن تأخذه في الاعتبار اللجان المسئولة عن النشر لأن الفنون الحقيقية كالفاكهة الحقيقية مستقلة عن ذائقة المتلقي بدرجة ما وهذا مالا يعرفه هؤلاء القائمون علي النشر الإقليمي إذ يظنون أن الشعر هو ما يستجيب لمعرفتهم عنه وهي في الغالب بالغة الضحالة، إذ لو أنهم قد عرفوا شوقي وحافظ و عبدالصبور والشرقاوي وأمل دنقل ودرويش و بيرم التونسي وفؤاد حداد وفؤاد قاعود وغيرهم ممن حفروا المجري العظيم لنهر الشعر الفصيح أو العامي ما أجازوا هذا الهراء الذي أدي لانصراف الجمهور عن تلك المطبوعات بل وانصراف الأدباء أنفسهم عنها وما عليك إلا أن تستفسر من إدارات الفنادق التي ينزل بها الأدباء أثناء المؤتمرات وسيقولون لك كيف أنهم يجدون أكواما من الكتب التي تخلص منها المؤتمرون قبل عودتهم لبلادهم. طبيعي ومفتعل إن قدرا من الحس النقدي يلزمنا لكي ندرك أن داخل إنتاج الشعراء ما هو طبيعي وما هو مفتعل وأنه كلما زاد حجم الأصيل في إبداعهم اتسعت دائرة من يتلقون إنتاجهم ومن يستمتعون به، بل قد تنتشر أبياتهم حكما وأمثالا علي ألسنة العامة والخاصة، و"الافتعال" ليس حكرا علي المتشاعرين فقد يكتنف بعض كتابات الشعراء الجيدين ولكنه يكون استثناء وليس قاعدة، أما إجازة الأعمال التي لا تستحق النشر لمجرد استهلاك الميزانية فيعتبر تهديدا للوجدان وللذائقة وخطرا علي مستقبل الفن والجمال والإحساس داخل الدماغ الإنساني، ومن هنا فإنني أهيب بالمؤسسات المعنية بنشر الإبداع أن تراعي الدقة وعلي هؤلاء المهملين أيضا أن يعلموا حجم ما يرتكبونه من جرم إذ تقع تلك الكتب في أيدي المبتدئين فيظنون أن الإبداع يكون هكذا فيحدث ما يمكن تسميته ب"نمذجة الرداءة" التي تؤثر علي شباب المبدعين وتؤسس لعزلتهم. أما الشعب العظيم الذي استمع إلي المواويل الشعبية وتأثر بها وأنتجها فسينصرف عن الإبداعات المفتعلة غير الأصيلة فتتسع الهوة بين المبدعين والجمهور، لذلك لم يكن غريبا أن يردد الثوار في الميادين أغاني" سيد درويش" و"الشيخ إمام" و"منير" ولا يلتفتون لمعظم الأشعار والأغاني التي صدرت عن السلاسل الأدبية علي مدي ثلاثين عاما، علي أنه يلزم التنويه أن ذات السلاسل صدر عنها أعمال رائعة لمبدعين كبار، لكن مجاورتها بركام الأعمال التافهة قد ضيعها وضيع الحقوق الأدبية والمعنوية لمبدعيها بعد أن زاحمهم المدعون الذين اعترفت بهم المؤسسات واحتفي بهم الإعلام انتقاما من الشعراء والكتاب الوطنيين الذين جعلوا من إبداعهم رسائل للوطن وللناس فضلا عن دورهم المناهض لقمع الحريات وللسياسات التي انتهجها النظام منذ سنة 1974 وحتي ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011 التي لم تفلح حتي الآن في القضاء علي هذا النظام التابع الذي يعتمد علي الاقتصاد الريعي الذي لا هدف له إلا نهب البلاد والعباد.