كم موظفاً في منطقتنا العربية سواء أكان في مؤسسة حكومية أم خاصة ابتسم لمديره موحيا له بقبول ما يقوله، ومن الخلف لعنه ألف لعنة، ووصفه بأقذع الأوصاف وأبشعها!! بالطبع هذا أمر نراه كل لحظة في حياتنا العملية؛ بل إنه سلوك لاشعوري يقْدم عليه البعض دون وعي أو تأنيب ضمير؛ لأنه أضحي جزءا من ثقافة العمل في المؤسسات العربية بشقيها العام والخاص ولعل خطورة النفاق الوظيفي علي الأداء الإنتاجي للمؤسسات دفعت بعض المؤسسات في الدول الغربية إلي إنشاء برامج للمصارحة الإدارية، وإنشاء وحدة للتعامل النفسي مع الموظفين وتحسين أدائهم قيمىًّا، فضلا عن ضبط بيئة العمل. وهو الأمر الذي لم تُعِره المؤسسات العربية أي اهتمام علي الرغم من وجود مقوم ديني يحذر من خطر النفاق، ويعتبر ممارسيه في الدرك الأسفل من النار؛ أي إنهم الأشد خطرا والنفاق كما نراه في مؤسساتنا العربية هو محاولة من قبل الموظف للتماهي الشكلي لا الداخلي مع بيئة الأعمال التي يرتزق منها، أو بتعبير آخر: أن يسلك الموظف عكس ما يعتقد؛ لأن مصلحته قد لا تتحقق إذا عبّر عن مكنونات نفسه أو رأيه بصراحة ويتفق ذلك مع المعني اللغوي لكلمة "النفاق" التي اشتقت من لفظة "نفق" التي تعني مساحات تحت الأرض يسودها الظلام في أغلب الأحوال، ولها أكثر من مخرج يوصل إلي سطح الأرض حيث النور والوضوح. ففي الظلام تُبيت النوايا، وتجهَّز الأقنعة المناسبة لتأدية الأدوار المطلوبة ضمن مخططات الفساد منابع النفاق وإذا أردت أن تكتشف أسباب -أو إن شئت الدقة منابع- النفاق الوظيفي في ثقافتنا العربية، فعليك أن تنتبه فورا لسريان "ثقافة التسلط" في منطقتنا العربية؛ فمدير الشركة في مؤسستنا العربية يعتقد أنه رئيس دولة مستبد يخرج كل مشاكله النفسية علي موظفيه، ومن ثم يدفعهم إلي استيعابه واتقاء شره، خاصة أنه يملك كل السلطات التي تخوله طرد أو مضايقة من يخالفونه في العمل دون محاسبة حقيقة وإذا كان السلوك غير السوي لهؤلاء المديرين هو أحد أسباب ثقافة النفاق؛ فإن الموظفين أنفسهم غذوا هذه الثقافة؛ لأن لديهم القابلية لذلك؛ إما لأنهم ضعاف المهارات أو غير مؤهلين لأداء أعمالهم أو دخلوا المؤسسة بطريقة غير شرعية، وهو أمر مستشْرٍ في منطقتنا العربية التي تسود فيها ثقافة الشلة والتشابك المصلحي بين الأفراد بمنطق "فلنخدمه اليوم وسيخدمنا غدا، وهكذا الأيام تدور. وبالإضافة لما سبق ثمة عوامل ذات طبيعة هيكلية تحيط بالمؤسسات العربية وتغذي النفاق الوظيفي، أهمها أزمة البطالة المنتشرة التي يصل متوسط معدلاتها إلي 10% في أوطاننا العربية وفقا للإحصاءات الرسمية؛ وهو ما يدفع أي شخص يعمل في وظيفة إلي التمسك بها أو بالأحري القتال عليها؛ لأن سوق العمل أصبحت ضيقة كثقب الإبرة، ومن أجل ذلك لا مانع إذا تنازلت قليلا واتخذت مظهرا متماهيا مع أفراد المؤسسة في سبيل البقاء وجبات المنافقين أيضا فإن الثقافة السياسية السائدة في مجتمعاتنا العربية التي تعلي من شأن السلطة وتعطيها كل المزايا وتحقر ما دونها تدفع الأفراد إلي التخلي عن أي ثوابت قيمية تحملهم علي قول الحق، أو انتقاد أي أوضاع لا تعجبهم وهنا من المهم أن نتذكر وجبات النفاق اليومية التي تبثها وسائل الإعلام الرسمية العربية للمواطنين لتقنعهم بأن كل ما تفعله الحكومة هو الحق، وأن غيره هو الباطل؛ وهو الأمر الذي يتسلل بشكل لاشعوري للمشاهدين ذوي العقول الخامدة والمنهكة، حتي ولو رفضوا ذلك من داخلهم لبعض الوقت. إن تكرار سماع مثل هذه المواد يخلق مواطنين مشوهين ثقافيا وسياسيا واقتصاديا ليس لديهم قدرة علي تقييم الأمور، إلا من منظور مصلحتهم الضيقة التي لا ترعي أي أبعاد قيمية؛ وهو ما ينسحب بالتبعية علي أدائهم الوظيفي في بيئة الأعمال كما أن ثقافة القطاع العام والبيروقراطية التي هيمنت لأكثر من ثلاثة عقود في بقاع عربية مختلفة كمصر وسوريا وغيرها حولت النفاق من مجرد سلوك لأفراد إلي نمط مؤسسي انتقلت عدواه لمؤسسات القطاع الخاص في بعض البلدان؛ فبعد أن كانت الممالأة لكبار الموظفين ومديري القطاعات وغيرهم أصبحت تتجه لأصحاب رؤوس الأموال، وتصاعد الأمر مع سوء الأحوال الاقتصادية في منطقتنا. النفاق.. والحداثة بدوره ساهم طغيان الحداثة علي المجتمع العربي في تأصيل ثقافة النفاق الوظيفي؛ حيث تعرضت لفظة النفاق إلي تحولات معرفية من قبل الناس لتسكينها في الجانب الإيجابي لا السلبي؛ فقد ظهرت معان مترادفة وقيم مستحدثة يتداولها الموظفون في المؤسسات، مثل: لتكن دبلوماسيا مع مديرك، أو المجاملة خير طريقك لنيل الرضا، أو الصراحة ليست جيدة في كل الأوقات، أو الصراحة المتجملة... إلخ كما ظهر ما يسمي بالنفاق المحمود، وهو ببساطة تطبيق لمبدأ الغاية تبرر الوسيلة؛ أي لا مانع أن تكون كذابا خاصة إذا كان ذلك سيكون لحل مشكلة، وتلك المعاني الجديدة التي حولت المستقبح إلي مستحسن يمكن القول بأنها وافدة وليست نابعة من ثقافتنا العربية وديننا الذي شن حربا شعواء، وخشي أكثر ما خشي علي المسلمين من النفاق؛ لأنه العدو الذي لا تراه ولا تعمل له حسابا. ولعل هذا ما يتضح في سورة البقرة حينما قال الله تعالي: "وَمِنَ النَّاسِ مَن يقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيوْمِ الآَخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ .يخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا ىَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا ىَشْعُرُونَ». ضريبة الفساد ولا يهوِّن أحد من النفاق الوظيفي؛ فله من التداعيات ما يوجع ظهر بيئة الأعمال؛ فالنفاق هو الضريبة التي يدفع بها الفساد الفضيلة؛ فالموظف المنافق لا يهمه استشراء المحسوبية والفساد داخل مؤسسته، ما دام الأمر لن يمس مصلحته، وهنا فهو يصمت عن أي تجاوزات، وقد يشارك في التغطية عليها إذا لزم الأمر الأمر الأخطر هو أن النفاق قد يؤدي إلي الكذب، ومن ثم اهتزاز المؤسسات، ولعل المثال المهم الذي اهتز له الاقتصاد العالمي قبل أكثر من عامين كان جراء محاولة القائمين علي شركات أمريكية كبري ك"أنرون للطاقة" و"ورلد كوم" للاتصالات، و"زيروكس" الأمريكية تقديم أرقام وهمية عن أرباح خيالية ساهمت في رفع أسعار أسهم هذه الشركات في الأسواق المالية بدون مبررات اقتصادية فعلية بهدف تضليل المستثمرين، ودفعهم إلي الإقبال علي شراء أسهم هذه الشركات بصورة كبيرة؛ وهو ما ساهم في رفع قيمتها بصورة جنونية وبالتالي يستفيد مديرو هذه الشركات نتيجة تضخيم مكافآتهم السنوية، في الوقت الذي لا يبالون فيه بالخسائر التي تلحق بحمَلة الأسهم من جراء إفلاس الشركات أو هبوط أسعار الأسهم في البورصة . وساعتها اعتبر خبراء أمريكيون أن "النفاق اعتلي مؤسسات الأعمال الأمريكية، فأفسدها وجعلها تنحرف عن أهدافها الاقتصادية ويجب تقويمها شخصانية المؤسسات أيضا.. فإن النفاق يخلق حالة من "الشخصانية للمؤسسات"؛ أي أن الموظفين يربطون عملهم برئيسهم، فما إن يرحل عن منصبه أو ينتقل إلي منصب آخر تتغير القواعد وتتبدل الأمور، ولعلنا نشاهد ماذا يحدث عندما يتولي وزير جديد منصبه؛ فأول شيء يقوم به هو محو كل ما فعله سلفه، سواء أكان إيجابيا أم سلبيا، وهذه عادة عربية تمتد من رئيس الدولة إلي أصغر مؤسسة صغيرة. وذلك رغم أن التراكم هو سنة إلهية، وأن الإنسان لن يستطيع أن يتقدم دونما أن يعرف سلبيات وإيجابيات أسلافه، حتي يستطيع عمل قيمة مضافة في عمله إذا رغب في التميز أمر آخر يبدو جليا في مؤسساتنا العربية من جراء النفاق الوظيفي؛ وهو ارتباط الأداء الإنتاجي بفكرة "الشو" (show) فالبعض يتحايل علي ضعف كفاءته بحرص مبالغ فيه علي أناقته أو بإظهار حبه المبالغ لمديره، أو الظهور أمام رئيسه بمظهر الموظف المجد الذي يعمل ليل نهار، وهنا يصبح العمل مجرد مبانٍ لا معانٍ؛ فالكل يعمل لأجل الشكل لا المضمون الذي غاب عن أداء الموظفين العرب ونظرا لأن العمل الشكلي هو النتاج الحقيقي للنفاق تظهر عناصر الاستخبارات داخل كل مؤسسة إدارية عربية تسعي لمعرفة مَنْ مع المدير ومن ضده؛ لأن منطق الولاء هو الذي يحكم الموقف وليس الكفاءة، كما تتحول تلك العناصر إلي لوبي قوي يلعب دورا مهما في قرار مدير الشركة باستبعاد من لا يدينون له بالولاء للمؤسسة، وهذا يساعد علي تعطيل الإنتاج وعدم تقدم المجتمع ولأن الموظف المنافق هو شخص غير منظور؛ لذا فإن مكافحته تتطلب من مؤسسات الأعمال العربية بالتوقف مليا أمام تطبيق قواعد الشفافية والمحاسبة والعدالة والديمقراطية في اتخاذ القرار؛ فما ظهر نفاق وظيفي إلا في بيئة افتقدت لهذه القواعد.