مر العرض العالمي الأول لثلاثية المخرج المصري الكبير الراحل شادي عبد السلام "الطريق إلي الله"، مساء السبت 23 يونيو الماضي في افتتاح مهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة، مرور الكرام، ولم يأخذ حقه من الاهتمام الجماهيري والإعلامي والنقدي كحدث سينمائي عالمي يهم كل عشاق الفن السابع، وكإنجاز كبير يحسب للمركز القومي للسينما.. ولو كانت الظروف السياسية والأمنية للبلاد طبيعية ومستقرة، لصار إنجاز الثلاثية وعرضها حديث الساعة في مصر وخارجها، ليس فقط تقديرا لاسم صاحبها الكبير، ولكن أيضا لأن هذا العمل السينمائي يخرج إلي النور - بعد نحو 40 عاما من تصويره - في توقيته المناسب تماما ليذكّر المصريين بتاريخهم وحضارتهم ويدعوهم للتوحد ونبذ خلافاتهم والتمسك بهذه الأرض الطيبة التي طالما كانت مقبرة لكل من حاول الاعتداء عليها. ثلاثية شادي عبارة عن أفلام قديمة غير مكتملة ولم تعرض من قبل رصد المركز القومي للسينما 300 ألف جنيه لترميمها، وكلف المونتير والخبير السينمائي مجدي عبد الرحمن بإعداد نسختها للعرض في فيلم تسجيلي طويل من ثلاثة أجزاء تنتمي إلي مشروع كبير كان يحلم به شادي واقترحه علي تلاميذه عندما كلفه وزير الثقافة الأسبق ثروت عكاشة بتولي مسئولية مركز الفيلم التجريبي عام 1976، وكان الحلم يتلخص في عمل سلسلة سينمائية تحت اسم "في وصف مصر" تشبها بالموسوعة العملاقة التي أصدرها علماء الحملة الفرنسية التي قادها نابليون بونابرت علي مصر عام 1798 . الفيلمان الأول والثاني من الثلاثية يحملان توقيع شادي، حتي لو لم يكن قد وضع اللمسات النهائية عليهما، وفيهما سحره كصانع سينما كبير أبهر العالم بتحفته "المومياء"، ولا أبالغ إذا قلت إن الفيلمين تحفة جديدة تضاف إلي صندوق مجوهراته.. أما الفيلم الثالث، فليس من صنع شادي، بل يروي فيه أنسي أبو سيف - تلميذه وصديقه - استعداداته لعمل فيلمه الروائي الطويل "مأساة البيت الكبير"، مستعينا بما كتب شادي من مشاهد، وبما أعد للفيلم من رسوم ومنحوتات وحلي بالاشتراك مع أبو سيف نفسه وتلميذه وصديقه الآخر الفنان الراحل صلاح مرعي. مشكلة في التلقي والمشكلة أن هذا الجزء الثالث - رغم جودته - لا يحمل سحر شادي، وإيقاعه وتقنياته مختلفة تماما عن الجزءين الأول والثاني.. ويسبب ذلك مشكلة للمتلقي، الذي يصل بعد هذين الجزءين إلي ذروة فنية ووجدانية عالية ومؤثرة، ثم يأتي الجزء الثالث ليهبط به إلي أرض واقع مختلف، مقللا من هذا التأثير ومنهيا تلك الحالة الفريدة.. والحل في رأيي أن يتكون الفيلم الطويل من الجزءين الأول والثاني، وأن يسمي بوضوح "ثنائية" - وليس "ثلاثية" - شادي عبد السلام، وأن يفصل الجزء الثالث ليعرض مستقلا بعد استراحة قصيرة أو ما شابه، مع الإشارة بوضوح أيضا إلي أنه ليس من إخراج شادي، ليس فقط من باب الأمانة الفنية، ولكن أيضا ليكون المشاهد مستعدا ومؤهلا لتلقي عمل له كل التقدير والاحترام لكنه مختلف في كل شيء. يحمل الفيلم الأول من الثلاثية اسم "الحصن"، وهو الجزء الأول من حلم شادي، سواء من ناحية البدء في التنفيذ أو كموقع جغرافي يقع في أقصي الجنوب بالقرب من أسوان.. وفيه يركز الراحل الكبير علي معبد إدفو الذي بناه البطالمة - عندما حكموا مصر بدءا من عام 332 ق.م - تشبها بالفراعنة القدماء، ليمجد المعماريون والنحاتون صورهم وألقابهم علي جدران المعبد بالخراطيش التي كانت سمة أساسية لحكم الفراعنة عبر الأسر الثلاثين السابقة.. ولكن كهنة مصر القديمة وحملة كتبها اللاهوتية المقدسة تصدوا للغزاة بطريقتهم، وأظهروا فطنتهم بالمقاومة السلبية للمستعمر من دون أن يقعوا تحت طائلة الانتقام، حيث كتبوا تراتيلهم الدينية بأسلوب الأحاجي واللعب بالكلمات، كما تركوا خراطيش منحوتة فارغة عمدا - كما يقول مجدي عبد الرحمن في كتالوج مهرجان الإسماعيلية - ربما انتظارا للبطل المنقذ الذي سيأتي من أبناء الشعب.. وفي إشارة له، صوروا علي الجدران أسطورة انتصار حورس وعودته لعرش أبيه الشهيد أوزوريس، أما العدو فتمت الإشارة له بإله الشر ست. يصور شادي جدران المعبد باقتدار وحس فني راق وأسلوب تقني نادر كأنه يصور معشوقة، مستخدما حركة كاميرا فريدة تبحر في الرسوم ب"ترافلينج" شديد الخصوصية وإضاءة موحية لتكاد أن تبعث فيها الحياة.. كما أحسست أنه كان يسعي في هذا الوقت المبكر - منتصف السبعينيات من القرن الماضي - لأن يدرب المشاهد المصري علي نوع آخر من التلقي يقوم علي التأمل وإعمال العقل بعيدا عن ألاعيب المونتاج.. وعلي سبيل المثال، يثبت الكادر طويلا علي قرص الشمس في الشروق لنتابعه حتي يبزغ، في إشارة ليس فقط ليوم جديد بل أيضا لأمل جديد في حضارة عظيمة تتجدد باستمرار. الكفيفة ورقصتها وللدلالة علي تواصل أبناء إدفو في الحاضر مع تاريخهم العريق، ينتقل شادي من تصوير المعبد إلي إدفو المعاصرة، وفيها "رقصة الكفيفة" التي تدور في طرقات المدينة في استعادة لطقوس الأجداد وشحذ للمشاعر الوطنية.. وأقل ما يوصف به تصوير الرقصة أنه "مذهل"، سواء في حركة الكاميرا أو اختيار زوايا التصوير أو التقطيع بين اللقطات، والذي تظل وتيرته تتصاعد حتي الوصول إلي "كريشندو" سينمائي مؤثر يدل علي عبقرية شادي وموهبته الاستثنائية. وبنفس الطريقة المذهلة، تقنيا وإنسانيا، يصور شادي حلقات الذكر في حضرة طريقة الدندراوية الصوفية بمدينة دندرة في الفيلم الثاني "الدندراوية"، الذي يسير علي نفس النهج في الربط بين الحاضر والماضي، حيث ارتحل شادي وفريق عمله إلي معبد دندرة الذي أقامه البطالمة أيضا وأكمل فيه كهنة مصر القديمة عملهم الوطني بتصوير عيد الزواج المقدس للإلهة حاتحور، والذي يسفر عن ولادة البطل حورس.. وكما يصور شادي المناظر الطقسية الموجودة علي جدران المعبد كنشيد ديني يحتفل بوصول حورس بكل الإجلال والتبجيل، ينتقل لتصوير حلقة الذكر بنفس التبجيل، فكلاهما خطوات علي الطريق إلي معرفة الله الواحد ونيل رضاه، سواء بالعبادة المتبتلة أو بالنضال الوطني. شخصيا، لم أشاهد قبل هذه "الثنائية" تصويرا أبدع أو أكثر تأثيرا للرقصات وحلقات الذكر الشعبية وكذلك لجدران المعابد، ولذلك أقول إننا إزاء حدث سينمائي عالمي لابد أن يستغله المركز القومي للسينما - الذي أنجز الفيلم ويملك جميع حقوقه - بالسعي لعرض الثنائية تجاريا في مصر، والسعي لتسويقها عالميا، سواء بالعرض السينمائي أو التليفزيوني أو بالمشاركة في المهرجانات الدولية، فلا شك أن كثيرين خارج مصر سيهتمون كثيرا بأعمال لم تعرض من قبل لشادي عبد السلام. أما الفيلم الثالث، "مأساة البيت الكبير"، الذي يبحر شمالا ليصل قرب المنيا حيث تل العمارنة، وهي المدينة التي أنشأها إخناتون كأول يوتوبيا (مدينة فاضلة) في التاريخ، فلا أقلل من شأنه، بل أقول إنني استمتعت بشرح أنسي أبو سيف استعدادات شادي لعمل فيلمه الحلم عن إخناتون، وبكاميرا سمير بهزان وهي تتجول في المعابد وتستعرض رسوم وتصميمات شادي ومرعي وأبو سيف لمشاهد الفيلم الذي لم يقدر له أن يخرج إلي النور للأسف الشديد.. وكل ما أطالب به أن يعرض مستقلا بعد الثنائية حتي لا ينسبه من يشاهده إلي شادي وهو ليس من إخراجه، كما حدث مع بعض من شاهدوه في افتتاح مهرجان الإسماعيلية.