كانت اللحظة صعبة، تخبئ خلف وجهها الساكن، أبجدية الخوف والمطاردة، لحظة حبلى بالخطر والمواجهة، كانت مصر كلها تقف على حد السيف، والبيوت انغلقت على الخوف من مواجهة الذى يأتى، وتبدو ملامحه أكثر شراسة وعنفاً، وخلت الشوارع من عابريها، انتظاراً للحظة التقاط الأنفاس، أو لحظة الكارثة، كل هذه الظروف الواقفة على أطراف أصابعها، بينما يصعد طائر النار من الرماد، ويحلق على أطراف المدينة، التى تنتظر من يفتح بوابة المستقبل، الفلول.. أم المشايخ، كانت بمثابة جدار عازل ومصمت بين الواقع المحترق، وبين أى نشاط فنى أو ثقافى، ربما خوفاً من تداعيات الواقع، وربما خوفاً من العمائم واللحى الطويلة، وكان مهرجان الإسماعيلية للأفلام التسجيلية، يواجه نفس المأزق، ويدخل نفس المنطقة، التى دخلتها مصر كلها، ويردد نفس السؤال، الذى تردده الشوارع والحوارى، ما الذى سيحدث غداً، لكن مجدى أحمد على أصر على إقامة المهرجان فى موعده، لأن الفن ليس ترفاً ولا تسلية ولا حتى مزاجاً كفنجان قهوة الصباح، الفن ضرورة للحياة، ومنطقة للوعى، وطريقاً للتعامل مع مفرادت الواقع، وقراءة أبجدياته الغامضة، وشعب بلا فن أو ثقافة هو شعب ميت، يمشى فى كفنه، حتى حافة الهاوية، ولقد اعترف محافظ الإسماعيلية، أنه كان على خطأ، عندما تخوف من إقامة المهرجان فى ظل تلك الظروف، لكنه الآن.. يرى كيف كان الناس البسطاء يحتفلون بالسينما التسجيلية، وليس الروائية التى ترتدى أقنعة البلياتشو.
وكان مهرجان هذا العام، قد قرر للمرة الأولى، أن يبتعد عن المناطق المغلقة وينزل إلى الناس فى النوادى والمقاهى والسينمات، ولو استمر هذا المهرجان يومين آخرين، لشكل مساحة من الدهشة والعناق فى تلك المدينة الهادئة الساكنة، وقد قدم المهرجان مفاجأته الثانية، وهى عرض ثلاثية الراحل العظيم شادى عبدالسلام، الطريق إلى الله، والتى تعرض للمرة الأولى، وإن كانت لم تصل إلى مرحلتها النهائية، إلا أنها تقدم ذلك العالم الساحر الذى عشقه شادى عبدالسلام، وتداخل الماضى والحاضر، الحجارة التى تأتى من عمق التاريخ، والبشر الذين يصنعون التاريخ، بين عالم كان يحتفل بالموتى، وعالم يصنعه الأحياء، ويحتفل بالحياة، من خلال توحد الدلالات اللونية والحركية والتشكيلية فى شفرة واحدة، تجعل المشاهد يفك طلاسم هذا العالم، وليس مجرد الاستمتاع بتفاصيله الفنية، الجزء الأول من الثلاثية عن معبد ادفو، والثانى حصن الدندراوية، وهما من إخراج شادى، والجزء الثالث مأساة البيت الكبير عن الاستعداد لفيلم أخناتون، واختيار الممثلين، ومعاينة مواقع التصوير، وهو من إخراج مجدى عبدالرحمن، كما قدم المهرجان برنامجاً خاصاً لأفلام الزمن الجميل، تلك الأفلام التسجيلية التى اختفت فى الأدراج، فيلم وصايا رجل حكيم فى شئون القرية والتعليم لداود عبدالسيد، المقايضة لعاطف الطيب، نمرة 6 لصلاح أبوسيف، البطيخة لمحمد خان، وغيرها.. تحية لكتيبة المهرجان المناضلة، وعلى رأسها مجدى أحمد على رئيس المهرجان، وأمير العمرى مدير المهرجان.