من بين أشهر الدساتير التي عرفتها مصر يأتي دستور سنة 1923م والذي صدر في يوم الخميس 19 أبريل من تلك السنة، في عهد الملك فؤاد (1917- 1936م)، وكانت مصر آنذاك تحت الاحتلال البريطاني، وقد نص هذا الدستور علي أن مصر دولة ذات سيادة وهي حرة مستقلة، وجميع السلطات مصدرها الأمة، ويباشر السلطة التشريعية مجلسا النواب والشيوخ، وأن المصريين متساوون أمام القانون في الحقوق والواجبات، وأن ولاية المناصب حق للمصريين وحدهم دون الأجانب، وأن الحرية الشخصية مكفولة في العقيدة والرأي، وكذلك حرية الصحافة، وأن التعليم الأولي إلزامي ومجاني للبنين والبنات، وتأكيد حق الاجتماع وتكوين الجمعيات واستقلال القضاء ومسئولية الوزارة أمام البرلمان، وأن الملك ذاته مصونة لا تُمس وهو يصدق علي القوانين ويصدرها وله حق حل مجلس النواب وحق تأجيل انعقاده حتي شهر وهو يتولي سلطته بواسطة وزرائه. وصدر قانون الانتخابات في 30 أبريل 1923م، وقرر الانتخاب علي درجتين أي علي مرحلتين، المرحلة الأولي يختار كل ثلاثين ناخباً مندوباً عنهم، والمرحلة الثانية يقوم المناديب فيها باختيار النائب عن الدائرة. دستور جديد وفي بداية الثلاثينات من القرن العشرين جاء إسماعيل صدقي باشا رئيساً للوزارة (الوزارة الأولي له والتي استمرت في الفترة من 19 يونية 1930م إلي 4 يناير 1933م). وكان من أبرز أعماله أنه وفي شهر أكتوبر من عام 1930م قام بإلغاء دستور سنة 1923م ووضع دستور سنة 1930م، ووضع قانوناً جديداً للانتخاب، حيث زاد الدستور الجديد من سلطات الملك كما أطلق يد الملك في مقدرات البلاد وسلب مجلسي البرلمان، الشيوخ والنواب، حقوقاً أجازها للسلطة التنفيذية، حيث أعطي السلطة التنفيذية حق التشريع وإقرار اعتمادات جديدة في غياب البرلمان، وقيد حق المجلس في إبداء الثقة وجعل حل مجلس النواب بدون تحديد تاريخ لإجراء انتخابات جديدة، وجعل الأعضاء المعينون في مجلس الشيوخ أغلبية، وأجاز تعطيل الصحف بقرار من محكمة الاستئناف في جلسة سرية.. أما بخصوص قانون الانتخاب الجديد، فقد جعل الانتخاب علي درجتين، حيث ينوب المندوب عن خمسين ناخباً، ويشترط في المندوب أن يكون مالكاً يدفع عن أمواله ضريبة عقارية أو يكون ساكناً في منزل إيجاره السنوي لا يقل عن 12 جنيهاً أو يكون مستأجراً لأرض زراعية لا تقل ضريبتها عن جنيهين سنوياً، أو يكون حائزاً للشهادة الابتدائية أو ما يعادلها، كما رفع سن الناخب إلي 25 سنة بدلاً من 21 سنة. وقد تصاعدت حدة انتقاد دستور سنة 1930م والمطالبة بعودة دستور سنة 1923م باعتباره الدستور الذي وثق فيه الشعب وارتضاه المصريون. وذهبت وزارة إسماعيل صدقي، وجاءت وزارة محمد توفيق نسيم (الوزارة الثالثة له والتي استمرت من 14 نوفمبر 1934م إلي 30 يناير 1936م). عهد جديد نشرت جريدة (الإنذار)، لصاحبها صادق سلامة، مقالاً عنوانه "أمل وحياة.. عهد مصر الجديد" في 18 نوفمبر 1934م قالت إنه "لكاتب قدير وصحفي كبير" اعتبر فيه زوال عهد دستور سنة 1930م، حيث عهد وزارة إسماعيل صدقي "حادثاً عظيماً في تاريخ مصر بل وجرأة أعظم في وقت رزحت فيه البلاد تحت تصرف الأقدار، وتحت نفوذ غير مشروع، فقد استطاعت بثباتها وتبرمها أن تكتسح من طريقها كل عناصر ذلك العهد، وأن تخلق من بعد الحكومة المضطربة حكومة قوية، وأن تؤلف من بعد الوزارة الرقيقة وزارة حية، إن عاونتها في مهمتها، أعادت إلي البلاد عصراً تاريخياً من العصور التي تفتخر بها الأمم، وتتمجد لأجلها الشعوب"، وهو يمتدح الوزارة النسيمية "التي استقبلتها الأمة بكل مظاهر الفرح والابتهاج.. وزارة بعيدة بأعضائها وعناصرها عن الأحزاب ولكنها عدوة للروح الأوتوقراطي وللنظام البالي الذي كان يهيمن علي الشئون العامة في البلاد، والذي أضعف الإدارة وشل المرافق، وفرق بين العناصر، وأفسد في أذهان بعض الموظفين صور الحق، حتي لم يبق جهدهم مقصوراً إلا علي حشد المال، واستغلال الوظيفة، وكل ما يحيط بالوظيفة من فخر وزهو".. واستمر الكاتب في نقد الوزارة الراحلة فيقول "إذا كانت الدنيا كتاب والرجال صفحاته، فإن رجال ذلك العهد الذي زال صفحات خالية من كل نفع، لأن البلاد لم تستفد في زمانهم غير النزاع، واشتداد الأزمة، واضطراب الأمن، وانتشار المخالفات والمخازي، وبروز العنصر الرجعي بمساوئه، وقد لا يخلو من حسنات، ولكن انصياعهم الأعمي لغير إرادتهم، أفسد عليهم ما أرادوا، فاضطربوا واضطربت معهم البلاد، وأصبح الأمر فوضي"، ويضيف "والآن نودع مع الأمة ذلك العهد برجاله، تاركين للتاريخ الحكم لهم أو عليهم، ونستقبل العهد الجديد وكلنا آمال أن يكون فاتحة خير وسلام، وبخاصة أن أعضاء وزارته من رجال القانون والعلم الذين يعرفون معني العدالة والمساواة ويقدرون موقف البلاد وصيتها، وكيف يصان هذا الصيت ويمجد، ولا أشد صوناً من القيام بالواجب وتوفير الراحة لأبناء البلاد وساكنيها"، ويتمني الكاتب ألا يمر هذا العام علي مصر إلا وتستقر حالتها وتعود الديمقراطية إلي كل دوائرها "لأن فرط الأوتوقراطية وحب التقاليد البالية، قد أضعف نهضة البلاد، وأفشي فيها الفوضي والتحيز، وحيث تكون الفوضي، يكون الاضطراب، وحيث يكون التحيز يكون الظلم". عودة دستور سنة 1923م قررت وزارة توفيق نسيم باشا في 30 نوفمبر من عام 1934م إلغاء دستور سنة 1930م الذي فرضه إسماعيل صدقي، وتم حل مجلسي النواب والشيوخ، ولكن الوزارة لم تأمر بعودة دستور سنة 1923م، حيث كانت تعتزم التقدم بمشروع دستور وسط بين الدستورين، وحتي يتم ذلك كانت السلطة كلها في يد الملك بما في ذلك بالطبع السلطة التشريعية. وعلي أية حال فإن إلغاء دستور 1930م كان له صداه الطيب بين المصريين المهتمين بمسألة الدستور. وفي نهاية ديسمبر 1935م صدر أمر ملكي بعودة دستور سنة 1923م، وهو ما كان له صدي طيب بين جموع المصريين. نشرت جريدة (الإنذار) مقالاً عنوانه "لقد عاد الدستور" في 15 ديسمبر 1935م، قالت أنه "لكاتب قدير وصحفي كبير"، عبر فيه عن فرحته بعودة الدستور لمصر، وهو يقول "لا يضير مصر أنها عانت كثيراً من ضروب الآلام. وصنوف الرق والاستشهاد في سبيل أمانيها ولكن يسرها أنها حققت تلك الأماني. ودنا يوم المجد والفخر. يوم الواجب والشرف. يوم الحرية والسلطة. يوم افتتاح البرلمان بعد أن صدر المرسوم الملكي بإصدار الدستور. وما كان الدستور إلا الرابطة القومية. والائتلاف الوطني والمساواة الصحيحة. والعدالة في أسمي معانيها"، ويضيف "ويا لدستور مصر الذي شهد ذكريات الماضي وآمال الحاضر وتمنيات المستقبل. ويا للدستور الذي رأي جنازة القانطين ورأي عيد الصابرين المجاهدين. ويا للدستور الذي لمس شعور المجاهدين وشعور المغتصبين. وشعور الناظرين. ويا للدستور الذي قوي الآمال. وجسم الأماني وحقق الرغبات. ويا للدستور الذي أيقظ الشعور. وعزز البطولة واحترام الكرامة. وأحيا الحرية والحرية بدون رق وعبودية وإرهاق"، ويختم بقوله "فعد أيها الدستور وقد عدت تحمل إلي مصر كيفية المسير إلي بلوغ الغاية القصوي والتذرع بالوسائل التي تلجأ إليها لتشييد حريتها ودعم استقلالها. عُد مبجلاً. وعش مُمجداً. وكن لمصر. كما أنت لكل الأمم حرية وحياة واستقلال".