شهد رفاعة في باريس ثورة الشعب الفرنسي علي حكومة الملك شارل العاشر سنة 1830م، وعلق علي أسباب خروج الفرنسيين عن طاعة ملكهم، من تعدد الأحزاب وتشديد الرقابة علي الصحف والمطبوعات وإضراب العمال وغضب الشعب علي الحكومة في ربيع عام 1826 انتهز محمد علي والي مصر (1805/1848م) فرصة مرور السفينة الحربية «لاترويت»La Truite فكلف قبطانها «روبيلار» Robillard أن يحمل معه إلي مارسيليا «إحدي مدن جنوبفرنسا» أربعين شابا ليدرسوا في باريس «عاصمة فرنسا» وبفضل جهود الشيخ حسن العطار أشار علي الباشا بأن يضيف إلي الطلبة إماما يسهر علي شئون دينهم في تلك البلاد البعيدة، فلم يرفض هذا الاقتراح، وهكذا عين العطار تلميذه رفاعة إماما للبعثة. وفي باريس اهتم «جومار» Jomard مدير البعثة بالشيخ رفاعة، الذي توسم فيه الذكاء فوجهه إلي الإفادة من رحلته بدراسة اللغة الفرنسية، وترجمة مبادئ العلوم وتدوين مشاهداته في باريس، لعل هذا الفتي الصعيدي أن يصير همزة الوصل المنشودة بين ثقافة الغرب وعقلية الشرق. تخليص الإبريز وسجل لنا رفاعة الطهطاوي كل ما شهده ولمسه في مدينة باريس من خلال كتابه الشهير «تخليص الإبريز في تلخيص باريز» فتحدث عنها من حيث موقعها الجغرافي بالنسبة لخطوط الطول ودوائر العرض وظروفها المناخية، التي كانت سببا في تحديد شكل المباني المنحدر السقوف وشكل الشوارع المبلطة بالحجر والمزودة بمجار تحمل الماء إلي البالوعات، كما يصف المدافئ التي يوقدها الفرنسيون لاتقاء برد الشتاء وكذلك البساتين المتنوعة، وعند رؤيته نهر السين، الذي يمثل أحد روافد الأنهار بفرنسا، وتقع عليه مدينة باريس آثر عليه رؤية نهر النيل، وقدر رفاعة عدد سكان ذات المدينة بنحو مليون نسمة، يتزايدون باطراد، وتتسع دائرة عمرانهم حول المدينة. ومن خلال معايشته اليومية لسكان مدينة باريس تبين له اتصاف شعبها بشدة ذكائهم، وتأصل الثقافة فيهم وتوقهم إلي الفهم والاستطلاع والوقوف علي كل طريف وولعهم بالصيف ودوام الذكر أكثر من تهافتهم علي الكسب وعرف نشاطهم الجم، ووصف كل ذلك في كتابه، كما وصف حركاتهم وتقلب مزاجهم وعواطفهم وحبهم لوطنهم وإكثارهم من الرحلات واحتفاءهم بالأجانب، غير أنه لاحظ تبذيرهم المال في طلب اللهو، وكون الاعتزاز بأنفسهم يسوقهم إلي الانتحار وتأديتهم الواجب، ووصف الرجال عندهم بأنهم عبيد النساء، يثقون بهمن ويدللوهن، ثم يلجأون في خيانة العرض إلي ساحة القضاء بدلا من أن يثأر ثأرا شخصيا. ويعجب رفاعة بعدم وجود الغزل في أشعارهم، غير أنه يأخذ علي نسائهم قلة العفاف، وعلي الرجال قلة الغيرة وإن كان يري أن اضطراب الأخلاق نتيجة اجتماعية طبيعية لبيئة المدن مثل باريس، وبجانب عقائدهم فهم تقدميون تطوريون، يؤمنون بالعقل ويرفضون ما لا يقبله العقل من الخوارق، ويأخذ عليهم قولهم بأن الحضارة في المجتمع الراقي تؤدي دور الدين في المجتمع البدائي. ويستنكر رفاعة إنكار بعضهم القضاء والقدر، ثم راح يصف مطهرهم، من بياض البشرة لعدم اختلاطهم بالزنوج إلي رقة نسائهم اللطيفات اللواتي يشاطرن الرجال متعة النزهة والرقص. وتأثر رفاعة الطهطاوي برسائل «مدام سفينيه» وأيقن أن للمرأة مكانا في الحياة الفكرية ينبغي أن تشغله، كما لاحظ مدي ثقافة الفرنسيين حتي لدي الطباخين وأرباب الحرف الأخري. كما نقل لنا أنماط الحكومة الفرنسية في الديمقراطية، حيث يدافع عن الملك «ديوان ألبير» أي «مجلس الأعيان»، ويدافع عن الشعب «مجلس النواب» أو «ديوان العمالات»، كما يسميه، ليكون ذلك عبرة لمن يرغب. وتعرف عن مواد الدستور، التي كان أساسها العدل والمساواة والإنصاف حتي إن الدعوي الشرعية تقام علي الملك، وينفذ عليه الحكم كغيره، كل ذلك كان من تعمير الممالك وراحة العباد، فلا نسمع من يشكو أبدا فالعدل أساس العمران. كما وصف لنا رفاعة الطهطاوي عادة سكني أهل باريس عند بناء منازلهم مستخدمين الأحجار والطوب، وتزينهم جدران العرف بورق منقوش وأرضها بخشب مصقول ووضعهم مختلف أنواع الأثاث وآنية الأزهار وآلة البيانو والسجاجيد النفيسة ومكتبة تضم أرقي أنواع الصحف والكتب، كما أثني علي ربة المنزل، حيث قال: «يكمل الأنس بحضورها» من حيث منزلها الجميل وأناقته ونظافته، كذلك تحدث عن غلاء العقارات ووظيفة البواب. ولم يفته استعراض مظاهر احتفاء الباريسيين بالفن فعدد أنواع التياير الباريسية من الأوبرا إلي السيرك، وكذلك البال أي حفلة الرقص «الدسكو» وأعجبته بعض الرقصات، التي يشترك فيها الرجال والسيدات، وهم جميعا في أفخر حللهم وزينتهم، وكأنهم يؤدون حركات رياضية مهذبة راقية. ومن خلال طوافة بمدينة باريس وصف لنا حدائقها وشوارعها من الشانزليزيه والبولفار، حيث ينتشر العشاق ليلا، حتي إنه ليأخذه الطرب، فيخرج من أعماق ذاكرته أبياتا من الشعر القديم عن الليل والغرام، كذلك وصف الحمامات لراحة الأبدان ومدارس الرياضة البدنية كطرق طبيعية للعناية بالصحة. الجمعيات الخيرية وأثناء تجوله بمدينة باريس عدد لنا الجمعيات الخيرية ودرورها في فعل الخير ببناء المستشفيات وملاجئ اللقطاء والأيتام والعمي والشيوخ «دار المسنين» وجرحي الحرب ومكاتب إغاثة المنكوبين ومراكز الإسعاف الأولية. وحدثنا صاحبنا عن أغذية أهل باريس وعاداتهم في المآكل والمشارب، فرأي خبزهم من الحنطة يطحنونها في طواحين الهواء والماء ويخبزها الفران فيبتاعونها من دكانه، لكونهم يشغلون أيامهم بما هو أهم من صناعة الخبز في بيوتهم، وكانت الأطعمة لديهم متنوعة، ولو عند الفقراء، كما تناول المائدة وآدابها وترتيب قائمة الطعام، وقد نالت هذه الأوضاع إعجابه، بالرغم من أن أطعمة الفرنسيين لم تطب له، كما شاهد الخمارات وتعثر ذات ليلة سكير خارج منها. ووصف لنا رفاعة ملابس أهل باريس وأثني علي لبس القمصان والألبسة والصديريات تحت ملابسهم، فكان الموسر يغير في الأسبوع عدة مرات، وبهذا يستعينون علي قطع عرق الواغش، ويشير إلي هندام الرجال، ولكنه يطنب في وصف ملابس النساء التي يراها «لطيفة لها نوع من الخلاعة». وقد انبهر لمشاهد الفن والجمال في باريس، فتناول وصف ملاهها وقاعة التمثيل بها ومراحل اللعب، وقد شبه اللاعبين واللاعبات «العوالم» ولمس خلال إقامته هناك خمس سنوات مدي حب سكانها للعمل والسعي إلي الكسب، وهو الشيء المتأصل في نفوس هؤلاء، حتي إن كلمة التوبيخ، التي كانت مستعملة لديهم وعلي ألسنتهم في الذم هي لفظة الكسل والتنبلة، ولم يفته الجانب الاقتصادي في الحياة الباريسية فاستعرض صاحبنا البنوك وشركات التامين كمؤسسات مالية وسيطة تسهم في النشاط الاقتصادي. وعدد أنواع المصانع وفوائد المعارض والمواد التي يدرسها الطلبة في معاهد التجارة، والعوامل التي ساهمت في رواج النشاط السياحي والاقتصادي كوسائل المواصلات وانتظام البريد والدعاية والإعلان لحركة التسويق، وأشار إلي العلوم التجريبية والفنون والصنائع والمتاحف والكنائس الأثرية التي تحلت بها مدينة باريس. الثورة الفرنسية ولقد شهد رفاعة في باريس قبل عودته إلي مصر ثورة الشعب الفرنسي علي حكومة الملك شارل العاشر في يوليو سنة 1830م، وعلق علي أسباب خروج الفرنسيين عن طاعة ملكهم، من تعدد الأحزاب وتشديد الرقابة علي الصحف والمطبوعات وإضراب العمال وغضب الشعب علي الحكومة ونشوب الحرب الأهلية ورسوم الصور الساخرة ضد الملك للمطالبة بالإصلاح، كما لاحظ أن الأسلوب العلمي هو أكثر الطرق للإصلاح السياسي. ويعجب رفاعة بمروءة الفرنسيين، وتلك من صفات العرب الأصلية وإن تكن ضعفت في الأزمة الأخيرة «مشاق الظلم ونكبات الدهر» مع اعتزازهم رغم ذلك بالحرية علي نحو ما يعتز بها الفرنسيون. وهكذا كانت عينا رفاعة لماحتين، فرصدتا الحياة الباريسية من جوانبها المختلفة، فكان وصفه من أطرف أوصاف الرحالة في العصر الحديث.