مما لاشك فيه، أن من يقرأ كتابات وأعمال "إبراهيم الكوني" الإبداعية، يدْرِكُ تمامًا مدي الارتباط الوثيق بينه وبين عالم الصحراء، ذلك الارتباط الذي قد يصل إلي حَد الهَوَس، كما يدرك أيضًا أنه مُفكِّر، اتخذ من الألم زاده الفكري..!! ومع أن العديد من الكُتَّاب والروائيين العرب، طرقوا عالم الصحراء، وكتبوا عنه، إلا أن "الكوني" لم يكتفِ بالكتابة فقط، بل عاش الصحراء، تشبَّع بها، تحدي الواقع، لينسج خيوطًا متينة بين البشر والرمال والسهول والوديان..!! و"إبراهيم الكوني" ذلك الكاتب والروائي العالمي، الذي وُلِدَ في "غدامس" الليبية، في العام 1948م، والذي ترك مسقط رأسه مبكرًا وهو في العاشرة من عمره، ليعيش فترة من حياته الأولي في موسكو، ثم انتقل إلي سويسرا حيث يعيش حالىًا في غربة عن الصحراء، عن الوطن/ ليبيا، نجده مع كل سنوات الاغتراب هذه يظل متمسكًا بجذوره، متشبثًا بها، لا يرضي عنها بديلاً، كما يظل دائم الحنين إلي الوطن، مخلصًا وفيا له، ولطالما عَبَّرَ عن ذلك في الكثير من كتاباته وأعماله ولقاءاته. والكوني ينتمي إلي قبيلة "الطوارق" التي هي امتداد للأمازيغ، الذين يسكنون الشريط الصحراوي الممتد في شمال إفريقيا، بدءًا من الواحات بمصر ومرورًا بليبيا وتونس وانتهاءً بدولة موريتانيا. والحقيقة أن معظم إبداعات الكوني الروائية "تدور حول جوهر العلاقة التي تربط الإنسان بالطبيعة الصحراوية وموجوداتها، وعالمها المحكوم بالحتمية والقدر الذي لا يرَد، كما تنتمي رواياته أدبىًا إلي ما يسمي بالرومانسية الجديدة، التي تتسم بتخيل الواقع أو تغريبه .. لقد اتخذ من الطبيعة الصحراوية أُمًا له، كما كان يتخذ الرومانسيون القُدامي من الطبيعة لهم أُمًّا.. لذا فأعماله تقوم علي بعض العناصر.. أولها: عالم الصحراء بما فيه من نُدْرةٍ وامتداد وقسوة وانفتاح علي جوهر الكون.. والثاني: الوجود وجوهر العلاقة بين الإنسان وبيئته بصفة عامة.." وإذا كان الكوني قد تَعرَّض لبعض الانتقادات، بسبب إكثاره من الرواية الصحراوية بعناصرها المتكررة، إلي درجة الملل - علي حد زعم البعض - وبأنه ينحاز إلي أهل الصحراء وبخاصة قبيلته/ الطوارق، إلي درجة نُكْران عناصر أخري مهمة في حياته، خاصة أنه عاش في الغربة أكثر مما عاش في الصحراء، الذي تركها منذ الطفولة.. نجده يرد علي ذلك بقوله: "لم يرو لي أحد شيئًا غير الصحراء.. الصحراء هي الجدة التي ربتني، وهي التي روت لي، وهي التي دفنت في قلبي سِرها، ولهذا عندما أتحدث عن الصحراء، أشعر بأن الصحراء مسكونة بي، وأشعر بأنني مسكون بالصحراء.. ففي الصحراء فقط يتجسد مبدأ وحدة الكائنات، وفي الصحراء تعلمتُ أن الشجرة والنَبْتة قرائن لىَّ، وفي الصحراء تعلمتُ تحريم أن تنتزع عودًا أخضر أو أن تفقس بيضة طائر.." أما عن "الغربة" فيقول: "الغربة عمق، والغربة إعادة تشكيل للروح، فيعيد الإنسان اكتشاف نفسه من الداخل، بل تكشف الغربة عن جوهر هذه النفس، فيتعري للإنسان كنوزها.." وعن "الوطن" يقول: "الوطن دائمًا نموذج مُصَّغر من العالم، والوطن دائمًا قيمة وليس غنيمة.. مشكلتنا مع الأوطان، عندما نكون فيها، نتعامل معها كغنيمة، لكننا عندما نغترب عنها، نعاملها كقيمة، وبهذا نري أن الذين ينقذون الأوطان دائمًا هم الذين اغتربوا عنها، وليس أولئك الذين تشبثوا بها، وهذه مفارقة..!!" جنوب غرب طروادة هذا هو عنوان أحدث أعماله الإبداعية الروائية، والصادرة عن "دبي الثقافية" - سبتمير 2011. ونجد أن الكوني قد اختار لهذه الرواية الباذخة البعدين التاريخي والوطني، لتكون "ساحة الأحداث في هذا العمل الإبداعي العملاق هي "ليبيا"، وتاريخ الأحداث هو بدايات القرن التاسع عشر، في مواجهة هي الأولي من نوعها بين العرب والأاسطول الأَمريكي، الذي أعلنت الولاياتالمتحدة من خلاله أنها القوة الاستعمارية الجديدة، لتتضخم هذه السيطرة بعد ذلك وتشمل العالم بأسره، شرقه وغربه ومن هنا جاءت هذه الرواية متوازية في شخوصها وأحداثها وإسقاطاتها مع ما حدث ويحدث للعرب.." كما نجد أن اسم "طروادة" ذات البعد الأسطوري الإغريقي، جاء مرادفًا لغرناطة، آخر مملكة عربية مزدهرة في الأندلس وآخر معقل عربي أَفلتْ عنه شمس حاضرتَنا، لتمثلا توأَمة فنية، تختلط معهما وفيهما حقائق التاريخ مع واقع الجغرافيا، مع الخيال المُجَنَح للكاتب، ليتقاطع ذلك كله مع أحداث الأمس القريب علي أرض ليبيا ، التي ُمنيتْ لمدة تقارب الخمسة عقود، بحكم فردي، وسيطرة طاغية ، كان يري نفسهُ المخلص، وأنه - كما كان ىَدَّعي - "نبي الصحراء"..!! وإهداء هذه الرواية - كما سَطَّره "الكوني" في بداياتها، هو إلي أبطال ثورة 17 من فبراير2011م.. ثوار ليبيا.. يقول فيها: "إلي أبطال لم يروا يومًا في الوطن غنيمة، فجادوا بأنهار الدم ليبعثوا فيه القيمة.. إلي شهداء ملحمة السابع عشر من فبراير: نزيف يشهد كيف يعيد التاريخ نفسه.." ص9 وهذا الإهداء ينطوي علي الكثير من الدلالات المهمة، ويؤكد لنا أن الكوني، دائم الإنشغال بوطنه، مهموم بقضاياه ومصيره، وأن الوطن لم يغب عنه لحظة، رغم البعد المكاني والغُرْبة التي يعيشها أو بالأدق الغُرْبة التي كان قد اختارها لنفسه..!! ويستَهلُّ "الكوني" رائعته، باستهلال من جزأين .. الأول: جاء بتوقيع الفيلسوف الفرنسي "جان جاك روسو" : "إلي أىّ مآلٍ سيؤول التاريخ لو خلا من الطُغاة والحروب ومكائدِ أهل الكيد"...والثاني: بتوقيع: أحمد النائب "المنهل العذب" : وخمدتْ نار الحرب، وبلغت كلّ نفسٍ مُناها، وقتل محمد بك القرمانلي نفسه ، وفرَّ أخوه أحمد بك إلي مالطا، وأُرسِلَ علىّ باشا القرمانلي إلي الآستانة العلية (أسيرًا). وانقرض بيت آل قرمانلي.." والجزء الأول من الاستهلال، يؤكد به "الكوني" أن التاريخ لا يخلو من وجود الطغاة ، الذين يحكمون قبضتهم علي شعوبهم ويفرضون استبدادهم وديكتاتوريتهم وتمسكهم بالسلطة، في إشارة إلي فترة حكم طاغية ليبيا/ القذافي، كما أنه لا يخلو من الحروب المُستَعِرة والكوارث سواء من أجل الحصول علي الحرية أو من أجل السيطرة والتملك، ولا يخلو أيضًا من المكائد التي يدبرها أهل الكيد والخديعة، وكأنه هنا يطَمْئِنُ الثُوَّار في وطنه إلي أن التاريخ سيذكرهم حتمًا ولن ينساهم أبدًا، في ثورتهم وحربهم ضد الطغيان والاستبداد، مذكرًا إياهم ومحذرًا أيضًا من أهل الكيد والخديعة، الذين يتربصون بهم.. فالتاريخ يشهد بوجود كل هذه الأشياء. أما الجزء الثاني من الاستهلال فيؤكد أن الاستبداد والظلم والطغيان، لابد لهم من زوال ونهاية، كما انتهي حكم أسرة (القرمانلي) في ليبيا وانقرضت واندثرت ، وقتل فيها من قتل، وهرب منها من هرب خارج البلاد، وأُسر منها من تم أَسره، وصارت إلي زوال، لينعم الشعب بعدها ويتنفس عبير الحرية، وتبلغ كل نفسٍ مُناها، وكأنه هنا كان يتنبأ بزوال الطغيان والاستبداد والظلم، الذي جثم علي صدر الشعب الليبي سنوات طويلة، طيلة حكم القذافي وأسرته وأقاربه. وبعد ذلك تنفتح الرواية علي عالم رحب فسيح، مليء بالأحداث التاريخية والإنسانية، التي حدثت علي أرض ليبيا، في أوائل القرن التاسع عشر، بداية من شهر أكتوبر 1803م وحتي صيف 1838م، علي مدار ما يقرب من خمس وثلاثين عامًا، يستقي فيها الكوني من عبق التاريخ ، عازفًا علي أوتار الوطن/ ليبيا، مستشرفًا المستقبل الأفضل ؛ الحلم الذي طالما راوده، بل ولم يفارقه قط، رغم وجوده خارج حدود الوطن، لسنوات طويلة. قبيل ثورات الربيع العربي ويكشف لنا تاريخ كتابة الرواية أن الكوني قد بدأ في كتابتها قبيل اندلاع الثورات العربية ، وأنه كان مستمرًا ومستغرقًا في كتابتها، أثناء هبوب رياح الربيع العربي، وقد انتهي من كتابتها وكانت بعض الدول العربية مثل: تونس ومصر قد نجحت بالفعل في ثورتها، فيما كانت بعض الدول العربية الأخري مثل ليبيا / وطنه واليمن وسوريا لا تزال تكافح من أجل القضاء علي الاستبداد والظلم والفساد وسلطة الحاكم الفرد . والقارئ لتلك الرواية يستشعر أن "الكوني" كان يغمره أثناء كتابتها الشعور الطاغي، بقدوم الفجر ، وبأن الربيع العربي آتٍ لا محالة ، وأن الطغيان والظلم والاستبداد لابد لها من زوال واندثار، وهذا ما يمكن للقارئ أن يلاحظه منذ البداية، بدءًا من (الإهداء) و (الاستهلال) ومرورًا بالأحداث التاريخية والوطنية والإنسانية داخل العمل، وانتهاءً بانقراض عائلة "القرمانلي" واندثارها والذي يشير إلي انقضاء الظلم والاستبداد. ولاشك أن الكوني قد نجح في هذ العمل في خلق وقائع وأحداث وشخصيات، تبتعد بالمتخيل عن التأريخ، من خلال مسحة تراجيدية، يمتزج فيها الفكري بالوثائقي بالإنساني، لتجعل التاريخ داخل المتخيل وليس العكس، وتشي لنا بأن المستقبل العربي يكتب اليوم بحروف من دم.. وأن المارد قد خرج من القمقم ولن يعود إليه . إن المُطَّلِع علي أعمال "إبراهيم الكوني" الإبداعية، يدرك أنه يمتلك قدرات إبداعية استثنائية ، وأنه كاتب متفرِّد، "ينتمي بإبداعاته إلي الكون الواسع، لا إلي وطن بعينه، وإلي كل العصور، لا إلي عصر أو زمن بعينه.. الوطن بالنسبة له هو وحدة صغيرة من وحدات الكون". لقد جعل "الكوني" من التخلّي مبدأ له في الحياة.. التخلّي عن المكان.. ولكنه أسكن الوطن في صدره، في حله وترحاله.. والتخلي عن الزمان.. ولكنه حَوَّله إلي أمكنة مسافرة.. والتخلي عن الجنسية والديانة.. ولكنه مسكون بكل الأوطان والأديان..!! وبذلك، نأي "الكوني" برواياته عن الهبوط إلي سرد تفاصيل الأنظمة العربية الفاسدة، بما فيها بلده/ ليبيا، لأنه يعلم تمامًا أن تلك الأنظمة هي إلي زوالٍ، إن آجلاً أو عاجلاً، فجاءت رواياته وأعماله الإبداعية بعيدة عن السطحية والمباشرة، تحمل الرمز كأداة جيدة لتوصيل الفكرة.