المشكلة ليست في عادل إمام المتهم بازدراء الدين الإسلامي، ولا في المحامي أو المحامين الذين يجدون في رفع مثل هذه القضايا ريا لتعطشهم المَرَضِي للشهرة، ولا في القضاء الذي أصبح هو وليس سواه آخر خطوط الدفاع عن مقومات أمتنا بعد ما حدث للسلطة التنفيذية والسلطة التشريعية وما يسمي بالسلطة الرابعة المتمثلة في الإعلام بشتي وسائله . المشكلة في حقيقة الأمر في الشعب المصري المتقاعس عن الدفاع عن فنونه . نحن هنا لا نتحدث عن فن تشكيلي يحتاج إلي درجة ما من المعرفة بخصوصياته، أو عن أدب قديم وحديث، أو عن شعر من النوع العمودي أو ذي التفعيلة أو المنثور، ولا عن موسيقي كلاسيك أو موسيقي خفيفة . إنها السينما حن نتحدث عن السينما المصرية التي شاهدنا أنفسنا علي شاشتها، شاهدنا يومًا مجموعة من المصريين البسطاء عندما نجحوا في تهديد الحكومة وعندما سألهم ممثلها شبيكم لبيكم عاوزين إيه قالوا "أكلة كباب" إجابة مريعة رغم مظهرها الكوميدي إلا أنها مشحونة بالمرارة، مرارة كالغصة وقفت في أحلاقنا حتي تاريخه. شاهدنا فلاحة بسيطة تقاوم السلطة ممثلة في عمدة القرية الذي طلقها من زوجها المعدم لكي يتزوجها هو فترفض المال والجاه وتبقي علي وفائها لزوجها، شاهدنا فتاة تلعب دور جان دارك وتقود قريتها لمقاومة الخوف، شاهدنا الأستاذة فاطمة وهي تنقذ زوجها من حبل المشنقة مبشرة بمرأة عاملة جديدة تقتحم كل المهن، رأينا عامل التراحيل الذي مرض واشتهي جدر بطاطة دمر زوجته، رأي الشعب المصري نفسه رأي العين في النصف الأول من القرن الماضي في ثورة 19 في الثلاثية الشهيرة . عمن كانت تعبر هذه السينما عن الشعب الأمريكي أم الإنجليزي ؟ ألم تكن صادقة في التعبير عن أخص خصائص الشعب المصري ؟ هل تعالت عليه كما تعالي غيرها من الفنون ؟ ألم تنزل إليه في الحواري والنجوع ؟ ألم تحدثه بلغته الدارجة وبلهجته، ألم تتعطر برائحة عرقه؟ ألم تصرخ معبرة عن آلامه؟ ألم تعبر عن أمانيه؟ عن طموحاته؟ أفراحه وأتراحه بمنتهي الصدق والأمانة؟ مستخدمة وسائلها باقتدار بالغ، ألم ينجح العديد من مخرجيها في التحول من مخرجي سينما إلي فنانين تشكيليين، فماذا نقول مثلا عن أنور وجدي وهو ينفخ في آلته النحاسية، بينما الطفلة فيروز ترقص أمامه أليست هذه لوحة رسم تشكيلي من زمن الكلاسيكيات الشهيرة، وما قولنا في هذه الطفلة وهي تقول لجدها بعد أن قصت شاربه ( بدل ما كنت تربي شنبك كنت تربيني يا جدي ) هل تلقي أي منا في حياته درسًا بهذا العمق؟ وما قولنا في فناني شارع محمد علي وتلك المجموعة من المهمشين وهي تتكاتف لتدفع مغنيا شابا إلي المجد الذي حرمت هي منه، ألم نرهم وهم يلحسون الملوخية التي سقطت عليهم من السماء وكأنها المن والسلوي ؟ هذا قليل من النقوش التي حفرت في نفسي وبالطبع في نفوسنا جميعًا كمصريين وكعرب، وبالمناسبة ليس هناك أمير أو شيخ من شيوخ العرب الخليجيين وغير الخليجيين لم يضحك في طفولته مثلنا علي اسماعيل ياسين، ولم يتلق وجبات من الجمال والنغم والرقة في باكورة شبابه من فاتن حمامة وماجدة وسعاد حسني وشادية وعبد الحليم حافظ وعمر الشريف، السينما المصرية كانت الفصل الدراسي والمسرح والملهي والسيرك والمصنع وميدان القتال بالنسبة لنا جميعًا كمصريين وكعرب، وبدلا من أن نرد لها الجميل ونحتفي بها ونقويها وندعمها بالمال والجهد فإذا بنا نمتهنها، ننكل بها، نتبرأ منها، نزدريها. هذا ليس كلام إنشاء، أو كلام ابن عم حديت، لقد رأيناها تباع أمام أعيننا في سوق النخاسة، دون أن تمتد أيدينا لها لتنقذها من يد النخاسين الذين جمعوها أو حصدوها ثم حبسوها في كمباوند لا يدخله إلا من يدفع لهم، وحرم الأغلبية من الشعب المصري من ملامسة ذاته، حتي تزداد غربته عن نفسه، حتي تمسح النقوش الحضارية من فوق صفحة نفسه وتصبح جاهزة لتسطير كلمات وعبارات أخري . حدث هذا للأسف أمام عين وسمع وزير ثقافة فنان تشكيلي. وقد واجهته بهذا الاتهام في مبني اتحاد الكتَّاب بالقلعة وهو في زيارة لنا، أيام عبارة اليونسكو، وقلت له بالحرف الواحد وعلي الملأ " إن التاريخ لن ينسي أبدًا أن الأفلام السينمائية بيعت في عهدك وصفوت الشريف وأنتما من تعرفان قيمتها جيدًا، وحرمتما التليفزيون المصري من خصوصية هي من حقه» . لا مبالاة لماذا يفرِّط الشعب المصري في فنه بهذه البساطة، وبهذا القدر من اللامبالاة، رغم جدلية العلاقة بينهما، بل وحميميتها، خاصة أن السينارست والمخرج والمؤلف والممثل واالراقصة والمغني والمصور وكله كله خرج من حواري، وأزقة، وشقوق هذا البلد، وكان من بينهم الكثيرون من المهمشين الذين عملوا «كومبارس» وأصبحوا وأصبحن من كبار النجوم والنجمات . لماذا لا يدافع الشعب عن فنونه وهي خارجة من صلبه ومولودة ولادة طبيعية وليست بعملية قيصرية أو نتيجة حمل سفاح؟ سؤال لابد من طرحه، الإجابة عنه بالقطع ستفصح عن عيب هيكلي، ولأنه عيب هيكلي فلابد أن يؤدي إلي المصيبة التي نواجهها الآن، وهي الحكم بالسجن الذي صدر علي فنان بحجم وقيمة ونضال عادل إمام، القادم هو الآخر مثلي ومثلك ومثلنا كلنا من حواري هذا البلد، تلك الحواري الحبلي بمواهبها والتي أصبحت الآن في انتظار دورها في عيادات الإجهاض التي انتشرت وآخذة في الانتشار أكثر وأكثر في هذه الأيام . المشكلة أيها الأعزاء أننا طوال الستين عامًا الماضية كنا نتجرد من حريتنا قطعة قطعة كراقصات الإستربييز حتي أصبحنا عرايا وفي حاجة إلي ما يسترنا، وقد أدي هذا إلي ظاهرة خطيرة أخذت تنمو تدريجىًا وبلا وعي منا وهي تحولنا من أمة إلي شعب، والفرق في نظري أن الأمة هي ناس بشر يربطهم ببعضهم البعض الرغبة في التقدم والرقي وإثبات الذات في مضمار السباق العالمي الذي أصبح يصدر عنه تقرير يومي في الفضائيات، أما الشعب في تصوري أيضًا فهو مجموعة من الناس، الشيء الوحيد المشترك الذي يربطهم ببعضهم هو غريزة حب البقاء، وشتان بين هذا وذاك، شتان بين ما يحرض عليه هذا وما يحرض عليه ذاك . فما نراه أمام أعيننا الآن هو تقيحات شعب وليس توجهات أمة لها كتَّابها وموسيقيوها ومغنوها. كنا أمة عندما نصمت إذا ما تكلم العقاد أو طه حسين، كنا أمة عندما نستعد في الخميس الأول من كل شهر لسماع أم كلثوم، كنا أمة عندما يتحدث إلينا كامل الشناوي أو مصطفي أمين، كنا أمة عندما يصدح صلاح جاهين، كنا أمة عندما كنا نعرف كيف نستمتع بمباراة في كرة القدم ونخرج منها ليس فقط أحياء بل مملوئين بالبهجة والتجدد والرغبة في مواصلة عملنا بنشاط أكبر، كنا أمة عندما يتفهم أحد قضاتها المغذي العميق من إصدار طه حسين لكتاب "الشعر الجاهلي" كنا أمة عندما كان لدينا نخب نعترف بها ونتبادل معها الهمس والحوار والنجوي. أما الآن فنحن شعب، أفراد غير متجانسين فكريا وشعوريا وقوميا، وإلي أن نعود أمة، سيبقي ذلك المحامي الذي لا يجد أمامه إلا الفنان الذي أضحكه وأبكاه وعلمه وارتقي بمشاعره فيهز طوله ويذهب ليرفع قضية عليه متهمًا إياه بازدراء الدين الإسلامي وكأن الدين الإسلامي حلة نرتديها أو يرتديها غيرنا ولكل من هب ودب أن يعطي رأيه فيها وليس عقيدة تعيش فينا، وتجري في عروقنا مجري الدم . لن تجف منابع ذلك الصديد المنهمر إلا عندما نعود مرة أخري لنصبح أمة، لها نخبها التي تعتز بها،عندئذ سنقطع يد كل من يحاول الاقتراب من فنوننا وأدبنا وموسيقانا وتماثيلنا ، فتلك الأنشطة هي بطاقة الرقم القومي للشخصية المصرية الدافئة الدافقة غير اللقيطة التي لن تموت أبدًا رغم كل هذا الحشد من الحانوتية الذين يجلسون في انتظار الجثة، ولن تخدعنا أشكالهم وطقوسهم، ولن تصرفنا عن ملاحظة شماتتهم، وحقدهم الأسود علي كل من حباه الله بموهبة .