"الحرية.. ذلك التاج الذي يضعه الإنسان علي رأسه ليصبح جديرا بإنسانيته".. كلمات أطلقها نجيب محفوظ الأديب المصري الكبير، والذي يعد واحدا من أعظم أدباء العالم العربي ومازلنا نحتفل بمئويته، هذا الكاتب الذي جسد تلك المقولة وكان جديرا بإنسانيته وقلمه، مستشرقا فجر موهبته من عمق التاريخ الفرعوني، مستلهما منه حكاياته التاريخية والمعاصرة، متأملا في الشخصية المصرية منذ فجر التاريخ حتي عصره، مجمعا خطوط الحرية من نقاط الضعف والقوة داخل التاريخ المصري وأشخاصه، مؤكدا علي رغبته الداخلية في الثورة والتمرد علي الاستبداد في كل أنواع شخصياته وفئاتها، فكانت كتاباته هي انعكاس لتاريخ مصر، وثورة علي الواقع.. تأكيدا لما قاله أن "الأدب ثورة علي الواقع لا تصويرا له". مشوار إبداعي منبعه التاريخ الفرعوني يذكر الكاتب والناقد عصام زهيري أن الثلاث روايات التاريخية الأولي لنجيب محفوظ، وهي "كفاح طيبة" و"رابوديس" و"عبث الأقدار"، كانت مشروعا لكتابة روائية تستمد موضوعاتها من كنوز التراث الفرعوني، وقد خطط نجيب أن تكون الكتابة التاريخية هي اتجاه حياته الأدبية، وكان متأثر بكتابات جورجي زيدان التاريخية، وحاول نجيب الاستفادة من قراءاته في الأدب العالمي ليصب التاريخ الفرعوني في قوالب روائية حديثة بمعايير زمنه اي بدايات القرن العشرين، فحاول تطوير مشروع جورج زيدان بتطوير القالب التاريخي الرومانسي الذي كتب من خلال جورجي إلي كتابة تاريخية واقعية ملحمية، وبالفعل قد امتاز أسلوبه في رسم شخصيات الثلاث روايات بالملحمية، وبرسم أشخاص قدرية تدخل في صراعات كبيرة مع القدر وتكافح ظروفها، سواء كان ظرفاً استعمارياً كما في رواية كفاح طيبة، أو سياسياً كما في روايتي رابوديس وعبث الأقدار. وانه كان بحكم انتمائه منذ الطفولة وزيارته التي كانت تصطحبه أمه إلي المتحف المصري "الانتكخانة وقتها" وأهرامات الجيزة وأبو الهول، فكان لديه انتماء روحي للتاريخ الفرعوني طوره بالدراسة وبالترجمة، حيث قام بترجمة كتاب واحد طوال حياته وهو كتاب جيمس بيكي عن تاريخ مصر الفرعوني، وظل نجيب مغرماً في كل رواياته باكتشاف عناصر الأصالة في الشخصية المصرية والتي تتضمن الانتماء للحضارة الفرعونية. استكشاف الشخصية المصرية ويشير عصام إلي أن اتجاه نجيب في البداية أن يقوم بمشروع كبير كان يقصد به كتابة التاريخ الفرعوني كاملا، لكن لفت نظره بعد ذلك الكتابة الواقعية لأوضاع المجتمع المصري وثورة 19، وتأثر بالانتماء للحاضر مع الحفاظ علي تأدية مهمته بشكل مختلف، فاهتمامه ظل قائماً في استكشاف الشخصية المصرية، ونجد في رواياته الاجتماعية حفاظه واستمراره علي هذا المنوال، ففي رواية السكرية إحدي الشخصيات تتكلم عن الشخصية المصرية: "الحق أن الاستبداد هو مرضهم "اي المصريين" كل .. يزعم لنا انه الوصي وان الشعب قاصر علي حماية نفسه، إن الزمن أدبنا أكثر مما ينبغي والشيء إذا زاد عن حده انقلب إلي ضده". ونجده نوه في خطاب نوبل الشهير إلي انه بن لامتزاج حضارتين وهما الفرعونية والإسلامية، وكان باستمرار يقدم في رواياته حكايات عن الشخصية المصرية بأنواعها وطبقاتها الاجتماعية المختلفة، محاولة منه في اكتشاف جينات الأصالة التراثية المتنقلة عبر التاريخ والزمن من الحضارة الفرعونية إلي عصره. أما رواية أمام العرش ففيها أقام نجيب محكمة من الآلهة المصرية القديمة مثل ايزيس وازوريس، وهذه المحكمة تحاكم أهم الحكام المصريين الذين اثروا في الشعب سلبا وإيجابا منذ العصر الفرعوني إلي أنور السادات، وقد أوضح من بنية الرواية التي تقدم هيئة المحكمة التي تحاكم الشعب المصري كله علي مر التاريخ هي محكمة فرعونية، حيث تنتمي إلي عصر مجد مصر واستقلالها الذهبي، وكون أن نجيب ينصب العصر الفرعوني لمحاكمة العصر المصري الذي يقتل السادات، فهذا يقطع بمدي حب وانبهار الوجدان المحفوظي بحضارتنا المصرية القديمة، وتزخر الرواية بمواجهات مذهلة ومثيرة بين حكام عبر العصور المختلفة، وتعتبر رواية سياسية تدور أحداثها أمام محكمة أسطورية فرعونية. نبوءاته بالثورة ويستكمل عصام أن من أعظم ما قدم نجيب في ضوء الخط الاستكشافي للشخصية المصرية رواية "العائش في الحقيقة"، والتي كتبها في مرحلة نضجه الفنية بعد المرحلة المبكرة التي كتب فيها الثلاث روايات التاريخية السابقة، والتي دارت أحداثها حول شخصية اخناتون والثورة الفكرية الدينية التي أتي بها، وإلقاء الضوء علي الظروف السياسية والاجتماعية والصراعات الدينية التي خاضت بثورته التوحيدية، وقد أسقطها نجيب علي واقع العصر الحديث، وما به من صراعات مذهبية، وصراعات العلم مع الجمود، والتقدم مع التخلف، فاستطاع أن يسقط علي هذا العصر ما كان يدور في العصور الفرعونية خلال ثورة اخناتون، وهذا يقطع دون شك علي أن نجيب محفوظ كان بدوره عائشا في حقيقة الشخصية المصرية بأصالتها التاريخية ذات السبعة آلاف عام. ويضيف أنه من الجدير بالذكر ما قدمه في رواية الحرافيش في الستينات، التي عبر فيها عن صرخة ضد استبداد الفتّوات، ويحكي عن الثورات الشعبية التي تقوم ضدهم وكأن بها ناحية تنبؤية تبشر بانتصار الضعفاء عن ما هي علي لسان إحدي شخصيات الرواية ضد إحدي الفتوات قائلا "اضربوهم بالحجارة"، وبالفعل استطاع الضعفاء الانتصار علي الفتّوات وعلي قوتهم الرهيبة وما معهم من أسلحة بالحجارة، وكان استكمالاً للمشروع المحفوظي في رواية أولاد حارتنا، والتي هي استعراض للتاريخ البشري منذ آدم حتي عصره من خلال فكرة تحقق مبدأ العدل في الأرض، وصراعات الأنبياء ضد الظالمين. حيث تبدأ الرواية بطلب إحدي الشخصيات من الراوي، أن يسجل حكايات الحارة، إذ قال له "انك من القلة القليلة التي تعرف الكتابة، فلماذا لا تكتب كتاب حارتنا أنها تروي بغير نظام وتخضع لأهواء الرواة وتحزباتهم، ومن المفيد أن تسجل بأمانة في وحدة متكاملة لتحسين الانتفاع بها"، إذن فالراوي قد شكل سيرة التاريخ البشري لينتفع بها البشر، حتي يصلوا إلي مجتمع العدل الذي ينتهي فيه كل ظلم وكل استبداد، ويصفها عصام بأنها حلم من أحلام الثورة، والذي بكل تأكيد سوف يتحقق. وأخيرا فقد قال نجيب في احد حواراته عن رواية كفاح طيبة: "أردت أن أقول انه مثلما نجح الشعب المصري في تحقيق استقلاله في العصور الغابرة فانه سينجح أيضا في العصر الحديث".