*الذين يقفون ضد اللغة العربية والتعريب لهم مصالح رديئة لأن ذلك يعجب الفرنسيين * هذه الكتابات باللغة الفرنسية كانت لها وظائف متعددة في فاعليتها وتأثيرها في الأوساط المثقفة الفرنسية لا يمكن القول بأي شكل من الأشكال بأن اللغة الفرنسية أضرت بالإبداع الأدبي والفني في المغرب العربي..بل علي العكس أثبتت أن هذه الكتابات ما هي إلا إدانة للاستعمار بلغته وبكلماته. ونظراً لاتساع الجمهور المغربي والأفريقي الناطق باللغة الفرنسية بحيث لا يمكن الوصول إليه إلا عن طريق هذه اللغة..ربما يصنع إتقان اللغتين الفرنسية والعربية حلولاً عديدة أمام أزمة التعبير غير أن هناك من يتساءل عن القيمة الأدبية التي تضمنتها هذه الأعمال ومدي مساهمتها في بناء صرح الثقافة العربية؟ نجاحات فائقة إن هذه الكتابات لم تنحسر لأنها مازالت تمتلك قوة الانتشار علي الرغم من عمليات التغريب التي حققت نجاحات فائقة في شتي الميادين الثقافية والأدبية والمعرفية. هذا ما يقوله الكاتب والإعلامي العراقي المغترب شاكر نوري في كتابه الضخم والذي تجاوز الأربعمائة وثلاثين صفحة وصدر مطلع أبريل الماضي عن دار الصدي برفقة دبي الثقافية.ولقد جعل شاكر نوري عنوان كتابه القيم هذا (منفي اللغة..حوارات مع الأدباء الفرانكفونيين). ويضم هذا الكتاب بين دفتيه عدداً من الحوارات يصل إلي الثلاثين حواراً أجراها شاكر نوري مع عدد من الكتّاب العرب والأفارقة الذين كتبوا والذين لايزالون يكتبون باللغة الفرنسية منهم:أحمدو كوروما/ ساحل العاج..ليلي صبار/الجزائر..سليم باشي/الجزائر..عمر منير/المغرب..ألبير قصيري/مصر.. أندريه شديد/لبنان.. الطاهر بن جلون/المغرب..صلاح ستيتية/لبنان..چورچ شحادة/ لبنان..وآخرون. وهي حوارات ثرية إلي حد كبير تفيد القارئ والكاتب العربي المهتمين بالأدب والفكر والثقافة. رفض أو قبول ثم يستطرد شاكر نوري وهو يقول:في الحقيقة لم تعد المسألة رفض أو قبول هذا الأدب لأن هذا الأدب أصبح الآن حقيقةً ماثلة في تاريخنا وجزءاً لا يتجزأ من الإبداع العربي..فالقيم الروحية العربية السائدة في أغلب هذه الكتابات تدل دلالة واضحة علي أن هذا الوعي هو جزء من تاريخنا وأن الاغتراب الثقافي لم يعد سلطة قائمة بعد أن كان مستفحلاً في الأرض العربية ردحاً من الزمن.لقد واكب الأدب العربي المكتوب باللغة الفرنسية ورصد عهد الحماية الفرنسي وزمن الاستعمار الإسباني وعلي الخصوص في المغرب وأصبح بذلك سجلاً للتاريخ السياسي والاجتماعي والفكري.وربما يكون من الأجدي أن نعرف هذا الأدب لأننا نجد فيه ذواتنا التي استلبت ردحاً من الزمن.وهنا تبرز عدة أسئلة منها: - هل الأدب الذي يكتبه كتّاب عرب باللغة الفرنسية يشكل إضافة إلي الثقافة العربية؟أم هو يخلخل هويتها؟ - هل يمكن اعتبار هذه النصوص جزءاً من الأدب العربي؟ - هل يمكن أن نعتبر الكتابات المغربية التي ظهرت في عهد الاستعمار ثقافة تذبذب وتغريب؟ لغة الكتابة يقول الكاتب المغربي الطاهر بن جلون:(كنا جماعة تتقيأ هذه اللغة بوضعها داخل تضاربها النحوي وإسباغ ألوان المعاني العربية عليها وكان ذلك داخل لعبة ولقد انتهيت منها الآن لتعترضني بعد ذلك مشكلة أخري وهي اختيار لغة الكتابة باللغة الفرنسية..اللغة التي أملكها وأستطيع الآن الكتابة باللغتين وأستمر في الكتابة بالفرنسية).لكنه واصل الكتابة بالفرنسية وأبدع فيها وأهمل الكتابة بالعربية ولم يذكر له إبداع فيها. أما الكاتب الجزائري الراحل كاتب ياسين فقد قال عن اللغة الفرنسية إنها منفاه وأضاف أيضاً:لقد عشتُ مدة طويلة في فرنسا وأعرف كيف تفهم هنا المسألة التي يريد الكاتب الجزائري نقلها من خلال نتاجه.كيف تحوَّر وتُشوَّه وكيف أن الماكينة الأدبية والصحفية والصالونات والجوائز الأدبية تفضي كلها في نهاية المطاف إلي مؤامرة كبيرة ضد الجزائر وضد أفريقيا وضد العالم الثالث..وضد كل ما هو نحن). وفيما يخص هذا الأدب ثمة نقاد يتنكرون له كما أن ثمة من يعتبرونه رافداً من روافد الثقافة الغربية وفي الحالتين لا يمكن ترك هذا الأدب لقراء اللغة الفرنسية وحدهم بل ينبغي إيجاد قراء عرب لهؤلاء الكتَّاب والشعراء الذين وصل بعضهم إلي مصاف العالمية. الأدب المغاربي وهكذا فإن ظاهرة الأدب المغاربي المكتوب بالفرنسية والقول هنا لشاكر نوري موضوع واسع..تضاربت فيه الآراء واختلفت وذلك لأن لهذا الأدب معارضين وأنصاراًزوالإشكالية الأولي والرئيسة التي تطرحها هذه الظاهرة علي بساط البحث هي مسألة دور اللغة في التعبيرزفالوضع الثقافي السياسي في المغرب العربي سواء أثناء الاستعمار أو فيما بعد الاستقلال يتميز بخصوصية المعرفة.. فالكتابة باللغة الفرنسية لم تكن تعبر عن نزهة عابرة ذلك أن الاستعمار الفرنسي فرض سياسة التجنيس والاستيطان فنتج عن ذلك اضطهاد فكري.. عرف علي مر الزمن بمحاولة طمس معالم اللغة العربية بكل الوسائل لكن سياسة التغريب التي سادت ردحاً طويلاً من الزمن فشلت في كل من الجزائر والمغرب وتونس..ولم تنجح أمام اللغة العربية المتجذرة في وجدان الناس.ثم إن الواضح أن اختيار اللغة الأجنبية وسيلة للتعبير عن الروح العربية لم يكن حباً واختياراً وإنما كان أمراً فرضته جملة من الظروف القاهرة. سارتر ومالرو ولعل أهم ما في الأمر أن هذه الكتابات باللغة الفرنسية كانت لها وظائف متعددة في فاعليتها وتأثيرها في الأوساط المثقفة الفرنسية مما أدي إلي ظهور موجة عارمة من الاحتجاجات ضد المستعمر كما هي الحال عند سارتر ومالرو. ولعل أهم ما في هذه الكتابات هو مجموعة ما تطرحه من أفكار وقيم ثقافية واجتماعية وروحية..فلا يمكننا أن نقسم أولئك الكتّاب إلي خندقين أحدهما يكتب باللغة الفرنسية والآخر يكتب باللغة العربية. وبعد أن يصف شاكر نوري في كتابه هذا (منفي اللغة) هذه الكتابات بأنها امتازت بجرأة طرح الموضوعات واستخدام الأساليب التقنية الحديثة..يتساءل: هل من المعقول أن نقول إن الإبداع الأدبي لا مستقبل له خصوصاً بعد أن احتل مكانة ادبية مرموقة في سجل الإبداع الإنساني؟ من أقوالهم وهنا أضع أمام عيني القارئ بعضاً مما جاء علي ألسنة الكتّاب الذين حاورهم شاكر نوري في كتابه هذا وهي أقوال أعجبتني بقدر ما أثارت دهشتي.وأبدأ بما قالته الكاتبة الفرنسية أندريه شديد رداً علي سؤاله لها:ماذا تعتبرين نفسك أكثر..مصرية أم فرنسية..تقول شديد:الاثنتان في آن واحد ولبنانية بعض الشيء أيضاً. وذلك لا يزعجني.. وانفتاح بعضنا علي البعض الآخر كفيل بحل العديد من المشكلات..ونحن بشر قبل كل شيء.. ونواجه المصير ذاته وخرجنا جميعاً من رحم امرأة.. ولا أجد هناك من طائل أن نصطنع الحدود والموانع التي تعيقنا.أما بوعلام صنصال الروائي الجزائري فيقول عن اللغة العربية إنها ليست أقل من اللغات الأخري بل علي العكس هي أغني من اللغات الأخري.وعن رأيه في الأدب الفرانكفوني يقول صنصال:يتمتع هذا الأدب بغني استثنائي. ولأن ثقافتنا الخاصة تُترجم في هذه اللغة.ثمة ألوان في هذا الأدب ويبدو أن اللغة الفرنسية تعاني الشيخوخة والاستهلاكية ونادراً ما أستطيع قراءة كتاب باللغة الفرنسية الباردة لأن التسطيح يغلب عليه..هذه اللغة تفتقر إلي الألوان والروائح.اللغة التي تفتقر إلي السحر تفقد كثيراً من ذاتها بينما العرب والأفارقة وكُتّاب من أماكن أخري قدَّموا غني خصباً إلي اللغة الفرنسية. صالح رديئة أما رشيد بوجدرة فيقول:لو لم تكن اللغة العربية عظيمة لما أنجبت شعراء كبار.وكذلك يقول إنه من البلاهة والجهل القول بأن اللغة العربية غير قادرة علي استيعاب عالم الرواية. وأيضاً يقول بوجدرة: الذين يقفون ضد اللغة العربية والتعريب لهم مصالح رديئة و(نذلة) لأن ذلك يعجب الفرنسيين ويصفقون له. وبعد هذه الإطلالة الخاطفة في هذا الكتاب الرائع والمفيد في آن..أدعو قارئي العزيز لقراءة هذا الكتاب كاملاً.. لأنه سيخرج منه بالكثير من الأشياء المفيدة والممتعة والجميلة.