وبعد قراءتي للمجموعة رأيت أن زاوية الرؤية الإحصائية تتيح مدخلاً رحبا. لكشف أهم المحاور الفنية لقصص المجموعة.. فمن حيث «التناول» بشكل عام نجد الكاتبة تركز علي اتجاهين رئيسيين: الاتجاه الأول: وهو تناول يرصد عالم الجنس الذكوري.. تناول يدور في فلك الرجل.. مستكشفاً أبعاد وجهة النظر في علاقاته ومشكلاته وهمومه ورحلة كفاحه في دنيا البشر. وسواء منها ما يتعلق بعلاقته بالمرأة.. أو بغيرها من الكائنات والأشياء. الاتجاه الثاني: وهو تناول يرصد عالم الجنس الأنثوي.. تناول يدور في فلك المرأة.. مستكشفاً أبعاد وجهة النظر في علاقاتها ومشكلاتها وهمومها ورحلة كفاحها في دنيا البشر.. وسواء منها ما يتعلق بعلاقتها بالرجل.. أو بغيره من الكائنات والأشياء. وفي البداية تكشف زاوية الرؤية الإحصائية عنصراً مهماً.. وقد وعته الكاتبة وهي تخطط لتناول متوازن في تشكيل عالمها الإبداعي المختار.. فهناك سبع قصص تدور في فلك الرجل.. وثماني قصص تدور في فلك المرأة. وهذا التناول المتوازن في عالم الجنس البشري يبلور لنا الأمور الآتية: 1- النظرة الحيادية للكاتبة هالة واستقرارها النفسي فيما يتعلق بالمشكلة الإنسانية من حيث شقها الذكوري والأنثوي. 2- قدرة الكاتبة علي التعامل مع الشق الذكوري «الرجل» بقدر من الصدق الفني يتوازن مع القدر المتاح للشق الأنثوي «الأنثي». 3- الاهتمام بالكائن الرجولي باعتباره أحد قطبي المجتمع الأسري.. وليس باعتباره كائناً منفصلاً. هذه ا لنقاط الثلاث المهمة تبدو واضحة في التناول الفني للكاتبة.. فعلي سبيل المثال نجد في قصص الجزء الأول من مجموعة «ربع رجل» الملاحظات الآتية: صمت في قصة «صمت» تتعرض الكاتبة لمشكلة الإحالة إلي المعاش.. إلي الاستيداع.. إلي المقصلة الكابوسية المتسلطة علي رقاب العاملين.. وبرغم الوقع الأبشع لهذه المقصلة عندما تصطدم بطموحات الرجل الشرقي وكبريائه.. باترة شرايين الاستقرار النفسي والمعنوي في كيانه.. إلا أن هذا الوقع يزداد بشاعة وضراوة إذا ما اصطدم برجل تغلفه طبقة من البيروقراطية.. ثم تقولبه زنزانة الأوراق والتوقيعات والأختام والرسميات.. حتي يتداعي مغلوباً علي أمره إلي قاع السكون واجترار الذات. وهكذا تبدأ الكاتبة رحلة الرصد.. لحركة هذا الرجل البيروقراطي المتقلب وبعد أن سقطت عليه المقصلة.. بعد أن أحيل إلي الاستيداع.. وقد يئست الزوجة من برودة الحياة في صحبته ووصولها لدرجة التجمد. وحين يزداد ضغط السكون علي الرجل يفر إلي السينما.. ينشد تواصلاً وهمياً بالمجتمع.. يأمل في سريان شعاع الدفء بعد أن تجمدت الذات في الداخل. وهناك في السينما يكتشف أن فاقد الشيء لا يعطيه.. فهو غير صالح علي الإطلاق في إقامة العلاقة الحميمة الدافئة مع الناس.. أو حتي في اختلاقها.. كما يكتشف أن التمادي في هذه المحاولة قد يتسبب له في كارثة.. وهكذا نجده يلملم نفسه ويجر رجليه في الظلام وينسحب..! وفي النهاية يموت الإنسان الصامت المتقلب.. تاركاً لزوجته وصية يقول فيها: «لا تدفنوني في قبري الجديد الذي اشتريته لأدفن فيه، بل في مدافن العائلة بقريتي فأنا أخاف الوحدة». في هذه القصة نجحت الكاتبة في حشد كتل الهزيمة.. وتركتها تتداعي متتالية إلي قاع النفس المنهزمة بمرارة الوحدة! وحيث تنتهي بقول الزوجة للابنة الصارخة.. «إصمتي.. كان أبوك يفضل السكون». زئير في قصة «زئير» نجد الرجل مريضاً في المستشفي.. يعاني قصوراً شديداً في كفاءة القلب.. والسبب ذلك الوباء الخطير.. إدمان التدخين.. وكما رصدت الكاتبة ببراعة لحظات وقوع المقصلة علي حياة الرجل المحال للاستيداع.. فقد رصدتها أيضاً ببراعة وهي تقع علي حياة مدمن المكيفات! فبعد أن تناول مريض القلب وجبته الدسمة.. بعد أن تناول ما اتحفته به زوجته مما لذ وطاب من الممنوعات.. تجده يتمدد في سريره لاهثاً.. متخماً تضيق أنفاسه بزوبعة البطن.. ثم يروح في غياب عن الوعي.. وفي لحظات الإفاقة ينظر إلي شاشة «المونيتور» فيري أسدا يجوب في القفص، بينما ذبذبات قلبه أسياخ حديدية تمنعه من القفز خارج الشاشة.. وبرغم بشاعة الحالة المرضية التي يعانيها المريض.. إلا أنه يبدو متسلطاً علي زوجته.. مستخفاً بوفائها ورعايتها له. تقول الممرضة للزوجة مواسية: «لا تحزني هو إلا يملك صوته». وهكذا يظل الأسد يزأر. وذبذبات القلب تعلو بداخل «المونيتور».. ثم تهبط والرقم المكتوب يزيد.. حتي يهمس أخيراً للمرضة.. الأ.. س.. د. ثم يسكن الصوت والجسد وتظل عينا الرجل تبحلقان إلي الشاشة أمامه. وفي هذه القصة أكدت الكاتبة علي لحظات الانكسار في حياة الرجل ولو كانت لحظات المرض! ربع رجل في قصة «ربع رجل» نتقابل مع شخصية زير النساء.. ذلك الذئب المتربص لفريسته علي هيئة رجل ناعم الملمس والحركة.. فيستغل طبيعة وظيفته كمدرب للمستجدات المتقدمات للعمل في إحدي المنشآت.. لكي يلقي عليهم شباكه المحكمة ثم يروح يفترسهن.. وهو يتلذذ بتحطم حياتهن في متعة ورومانسية متناهية. وتسوق الفريسة الأخيرة مبرراتها النفسية الموجعة.. تلك التي أوقعتها في شباك الذئب. «لعلي أكون الفريسة الوحيدة التي تخيرت الشرك لتقع فيه.. فشلت في خطبتين ونصف زواج ولم يستمر سوي شهرين وكأني نصف امرأة.. معه شعرت بأني مكتملة الأنوثة». كما تسوق إحدي الفرائس السابقة المبرر النفسي للرجل الذئب فتقول: «إنه رجل ممزق من امرأة أولي بحياته، لفظته لآخر وهو ينتقم منا، يحطمنا». وتحس الفريسة الأخيرة بأنها جلست علي عرش مشاعر الرجل الذئب وبرغم ذلك تتساءل في تخبط: «هل حقا أحبني؟ أم كنت ندف الثلج فوق سعير رغباته وتجاربه فاستكان لحناني» ويستقر رأي الفريسة علي أن نصيبها من هذا الرجل لا يتعدي الربع رجل.. وترتضي به عن قناعة مطلقة.. علي اعتبار أن ربع رجل نظيف أفضل بكثير من لا شيء.. وأنها قادرة علي أن تصنع من هذا الربع ما يكفي كل احتياجاتها كامرأة ناضجة.. وترتشف دمعاتها وتمسك بأذني هذا الربع وتجذبه. «كم تمنيت أن أكون أماً، لكني ما تخيلت أن يكون ابني في الأربعين من عمره.. ولتعلم سأربيك بحزم». وهكذا تسرب الكاتبة لنا شيئاً من الصدق الفني يبوح بنسمات من المشاعر الأنثوية.. فالمرأة قد تكتفي بربع رجل نظيف لتصنع منه كل آمالها وطموحاتها.. إن تعذر الحصول علي الرجل الكامل..! وتكشف زاوية الرؤية الاحصائية محورا فنيا آخر.. وهو اختيار الكاتبة «للضمائر» المستخدمة في البناء اللغوي للحكي.. فهناك أربع عشرة قصة استخدمت فيها الكاتبة «ضمير الغائب» في مقابل أربع قصص فقط استخدمت «ضمير المتكلم». واستخدام ضمير الغائب في البناء اللغوي للحكي قد يكون أكثر إيجابية في التواصل الجيد للأسباب الآتية: 1- خلق رؤية بانورامية متسعة.. متعددة الزوايا وحركة المشاعر.. مما يدعم الحدث الدرامي ويثريه. 2- الخروج عن حصار ذات الراوي.. الذي يفرضه ضمير المتكلم.. وهو ينحاز إلي وجهة نظره الخاصة. ومن أمثلة الاستخدام الجيد لضمير الغائب.. آيس كريم مر قصة «آيس كريم مر».. تدخل بنا الكاتبة إلي منطقة الضوء من جو القصة عن طريق الطفلة الصغيرة «هيام».. وقد بدأت تستجيب لغريزة الأنثي في تشوقها لسحر النضج والجمال.. فهي تتطلع إلي فستان أمها.. متلهفة علي ارتدائه.. فلعله ينشط فوران هذا القد الصغير فتصبح فجأة جميلة كأمها. ثم تبدأ الأم في دخول منطقة الضوء نفسه.. وهي تسوق فرحتها بالابنة لبلوغها مرحلة الأنوثة النشطة.. ثم يدخل تباعاً إلي منطقة الضوء الأربع بنات الصاحبات من أهل الحي وهن يلعبن ساعة المغربية.. ثم تبدأ المناوشة تنصب علي رأس هيام من هؤلاء الصاحبات.. فرحن يسخرن من ملابسها.. من فستان أمها ومريلتها فشكلها في هذه الملابس وحش قوي.. يشبه الخادمة! «هزمتها الكلمات، تلعثمت.. لم تستطع أن تقول نسيت خلع المريلة والفستان لسعادتي بشراء الآيس كريم.. لا أتذوقه إلا مرة كل شهرين خلسة من وراء إخواتي الستة». وعندما سألتها أمها عن سبب بكائها لم تصارحها..! وعندما أسرعت تلعق الآيس كريم وجدت طعمه مراً..! وهكذا جاءت المقابلة بين الحلاوة والمرارة في الطعم المحسوس.. لتكتشف التأثير النفسي علي هذا الواقع المحسوس فتغير أهم خواصه..! فقد غيرت سخرية الصاحبات من ملابسها طعم الآيس كريم من الحلاوة الممتعة.. إلي المرارة المقززة. وبرغم المساحة الصغيرة في طرح الموضوع.. إلا أن تعدد الأصوات عن طريق استخدام ضمير الغائب ساعد كثيراً في كشف تحول نفسية الفتاة الصغيرة..! في قصة «ثوب أسود للزفاف».. المرأة في هذه القصة فاتها قطار الزواج.. حاولت أن تعثر علي العريس وهي في سن الأربعين.. جاهدت لتفك النحس عن طريق التبرك بمنديل عقد قران صديقتها.. لعل وعسي..! ولكن يوم طرق بابها العريس المنتظر كانت تفقد وعيها.. فليس فيه ما يشجع علي دخول دنياها الجديدة..! وبرغم قبولها للأمر الواقع إلا أن هذا القبول ظل معلقاً بشرط وحيد.. أن تلبس فستان الفرح الأبيض وتزف به.. واعترض العريس ففشلت الزيجة! كانت المسألة نفسية بالدرجة الأولي.. فهي لن تتنازل عن حلم الطرحة التي طرزتها بنفسها. ويزداد الضغط النفسي عليها حتي تقبل الإحلال مكان أختها المتوفاة في عش زوجيتها.. وفي كنف زوج الأخت.. بعد أن يصبح زوجاً لها هي. ويظل حلم الفستان الأبيض وطرحته المطرزة بالخرز والترتر معلقاً في بؤرة الدماغ والصدر.. لا يسهو لحظة.. إلي أن تأتي اللحظة الإنسانية.. فنري هذا الحلم ينتقل ملتمعاً إلي عين ابنة الأخت الطفلة الصغيرة. «مدت يدها، زينب إلي رأس الصغيرة بالطرحة، ضمتها، قبلتها، كانت تشبهها». أضفت اللغة المستخدمة في المجموعة القصصية «ربع رجل» جوا شاعرياً علي الحدث.. فيه ثراء وفيه تدفق. فالقارئ يكتشف بسهولة مدي إحساس الكاتبة بالمفردة اللغوية، موسيقاها ومذاقها الأسلوبي، مع بساطتها المفرطة في نفس الوقت.. مما يتيح متعة القراءة ومتعة التجارب مع رحلة الفكر القصصي. وبطبيعة الحال فمستوي اللغة الشاعرية يفرض نفسه علي الأعمال النثرية للكاتبة.. لما لها من تجارب مع القصيدة الشعرية.. ومثال ذلك فهي تبدأ قصة «ثوب أسود للزفاف» بهذه الجمل: «علقت عينيها تنتظر لحظة يغوص قرص الشمس في ماء النيل.. لعلها تسمع طقطقة الأشعة الساخنة عندما تلتقي بالماء.. كلاهما يطفيء انتظار الآخر له». وفي قصة «لسان» يصيح أحدهم: «الغربان أكلت فخذي زوجتك يامجاهد وأنت في الغربة تجاهد». وبرغم أن هذا الاستخدام الواضح لجماليات اللغة يتأتي تلقائياً ومقرباً لطبيعة القاصة الشاعرة هالة فهمي.. إلا أن هناك منزلقاً يجب الانتباه له جيداً.. فقط يؤدي الانسياق وراء الحماس الزائد في استخدام جماليات اللغة إلي نوع من التصدع في البناء الفني للقصة.. إلا الإخلال النسبي بالتوازن المطلوب بين الوعاء والمحتوي..!