كرية بدير التي أثبتت مهارتها سابقا في إعدادها رؤية رافضة لقصة طه حسين «دعاء الكروان» وحصدت بها الجائزة الأولي في مهرجان المسرح التجريبي تعود إلي التراث الأدبي تستلهم منه حكاية جديدة أحسنت المخرجة في اختيار تيماتها الموسيقية التي استطاعت أن تخلق جوا حميما شعبيا يدخلنا بقوة وبشكل مباشر إلي قلب الأحداث المهمة الأولي التي ألقيت علي عاتق فرقة فرسان الشرق.. هي إحياء التراث الشعبي المصري عن طريق الموسيقي والعروض الراقصة التي تستلهم من معطيات الشعر به روحها واتجاهها. وهكذا استطاعت هذه الفرقة التي كونها وليد عوني بكثير من الجهد والاجتهاد والموهبة أن تقدم عرضها المبهر الأول عن قاهرة المعز.. تستعرض فيه قصة حي وشعب وتراث وثقافة مستغلة كل إمكانيات الإبهار المسرحي والتأثير المباشر للموسيقي الشعبية والرقصات المألوفة. ورغم غياب وليد عوني «الذي نرجو أن يكون غيابا مؤقتا» استطاعت مساعدته الأولي وتلميذته المجتهدة كريمة بدير أن تمسك بالراية وتحول دون سقوطها وأن تتابع برنامج هذه الفرقة.. وإعداد كوادرها وراقصيها وأن تسير علي نفس المنهج الفكري والفني الذي كان سببا أساسيا لنشأتها. هذه المرة تنطلق الفرقة من أحياء القاهرة القديمة التي عبرت عنها ببراعة وذكاء.. إلي الريف المصري الذي استمد منه نجيب سرور رائعته المسرحية «ياسين وبهية» والتي تروي الحكاية الشعبية قصة هذا الغرام الذي انتهي نهاية فاجعة عندما قتل ياسين علي يد رجال الباشا الإقطاعي الذي أراد تأديب ياسين الذي حاول الدفاع عن شرف حبيبته التي أراد الباشا الظالم اغتصابها وضمها إلي «حريمه». المسرحية التي كتبها «سرور» مليئة بالشجن.. والشاعرية فيها تنطلق من الحدث وتمر بالكلمة.. ثم تخلق جوا مأساويا حافلا بشتي العواقب المتناقضة اللاهية. كريمة بدير التي أثبتت مهارتها سابقا في إعدادها رؤية راقصة كقصة طه حسين «دعاء الكروان» حازت من أجلها علي الجائزة الأولي في مهرجان المسرح التجريبي السابق، تعود مرة أخري إلي التراث الأدبي تستوحيه مادة عرضها الراقص الجديد.. دامجة بين الحوار المسرحي والرقص التعبيري الجماعي أو الثنائي.. لتعبر عن قصة حب وثورة وانتقام وفوران طبقية خانكة. قيمات موسيقية أولا.. أحسنت كريمة بدير في اختيار تيماتها الموسيقية التي استطاعت لوحدها أن تخلق جوا حميميا شعبيا يدخلنا بقوة وبشكل مباشر إلي قلب الأحداث. كما نجحت في المحافظة علي مستوي راقصيها وراقصاتها.. الذين يظهر بوضوح مدي الجهد المبذول في إعدادهم وفي تدريبهم وفي الوصول بهم إلي المستوي اللائق بهذه الفرقة الشابة التي تحاول أن تجد لها موقعا مميزا في خارطة الفن الاستعراضي المصري الحديث. مجموعة الراقصين أثبتت كفاءة مميزة سواء في انسجامها العام أو في رقصاتها الفردية، وإن كانت تصميمات الرقص قد ركزت أكثر مما يجب علي رقصة التحطيب التي تكررت أكثر من مرة في سياق العرض.. حتي وإن جاءت بأساليب مختلفة ولكنها طغت علي جميع الرقصات الشعبية الأخري.. التي كان يمكن لبدير أن تستغلها بشكل أقوي وأكثر تركيزا. كما جاء استعمال العروض الخلفية «ماك بروجشكن» والاستعاضة به عن الديكور ثقيلا ومربكا أحيانا وبغير أي داع أحيانا أخري. وأعجبني الاقتصاد في ألوان الثياب.. والتركيز علي اللونين الأبيض والأسود وكأنهما رمزان لهذا التناقض الصارخ في المجتمع وفي العلاقات بين الناس وفي النظر إلي الأشياء. شجن رقيق كما جاءت «الكوريجرافيا» سلسلة ناعمة ومليئة بالشجن في الرقصات الثنائية التي كان من الأجدر لكريمة أن تزيد منها.. خصوصا أن المسرحية أصلا تتحدث عن قصة حب لاهبة.. ندر ما تتحدث عن ثورة اجتماعية وشعبية. وبدا تأثير «جيروم روبنز» المصمم الإيراني الشهير صاحب «قصة الحب الغربي» إلي جانب أعمال أخري كثيرة مشابهة واضحا تماما في رقص المجاميع.. منسجمة مع هذا المزيج من الأسلوب الشرقي والأسلوب الغربي في الرقص والذي أرادت كريمة بدير أن تتبناه بشكل لافت في عملها الأخير هذا. ولم أفهم سبب لجوء المخرجة والمصممة المجتهدة إلي اتباع أساليب قديمة عفا عليها الزمن تضيفها إلي عرضها الأنيق والجميل هذا كوضع إكسسوارات في طرفي المسرح.. أو هبوط بعض الراقصين من المنصة إلي الصالة.. وهي أساليب قديمة لجأ إليها أكثر من مخرج في مسارح الستينات والسبعينات.. وأصبحت الآن «عملة مضروبة» لا تحتاج إليها مخرجة ماهرة ومتميزة ككريمة بدير. كما أن اللجوء إلي الأدب.. وإلي جمال كلمات نجيب سرور قد أغري بدير في استعمال الحوار اللفظي.. والذي استعاضت به في بعض المواقف عن التعبير الراقص الذي كان يجب أن يكون المحور الأول والأخير لهذا العرض. بالإضافة.. إلي أن راقصي وراقصات الفرقة كان همهم الأول هو الإبداع في الحركة لا التعبير بالكلام.. لذلك جاءت «المشاهد الحوارية» ضعيفة في أدائها.. هزيلة في تأثيرها.. ولا يمكن لأحد أن يطلب من راقص ماهر أو راقصة بارعة أن يكونا ممثلين بارعين قادرين علي الإمساك بدفة الكلام دون وهن ودون تردد. عرض ممتع لكن تبقي «عيون بهية» عرضا ممتعا.. وجديرا بالمشاهدة وقادرا علي اجتذاب جمهور يتزايد يوما بعد يوم.. لذلك كان العرض المحدود لهذه المسرحية الراقصة «من أيام زمان» أمراء يستدعي الدهشة.. وكان من الأفضل إفساح المجال الزمني للفرقة لكي تؤكد إمكاناتها وتستقطب لنفسها جمهورًا تستحقه ويستحقها. لقد تأسست هذه الفرقة لتكون واجهة حضارية لفن شعبي مصري أصيل يمكن أن يطوف أرجاء الدنيا حاملا رسالة وهدفا وشعرا.. وهذا ما حققه بنجاح العرض الأول للفرقة «قاهرة المعز».. وهذا ما يمكن أن يحققه العرض الثاني «عيون بهية» الذي يحمل في طياته كل الإمكانيات التي يمكن أن تثير متفرجا مصريا أو أجنبيا وتجعله يتغلغل إلي ضمير «الشعب المصري» عن طريق فولكلوره وموسيقاه ورقصاته وأساطيره الشعبية. ويبدو أن كريمة بدير ستسير في هذه الفرقة علي نفس الأسلوب والطريقة التي بدأ بها عوني.. وأكملتها بدير في «عيون بهية» إذ إنها تفكر حاليا.. بإعداد راقص عن قصة شعبية مصرية أخري.. لها جذورها وتأثيرها الكبير.. وخلفياتها السياسية.. وهي قصة «شفيقة ومتولي». هذا الأسلوب وهذا المنهج.. هما ما تحتاج إليه فرقتنا المسرحية الاستعراضية لأنها بذلك تجمع بين الروح الشرقية والتكنيك الغربي الذي عرف عوني كيف يستمد من جذوره.. جذورا عربية أصيلة وها هي تلميذته المجتهدة تسير حذوه وعلي نفس منهجه.. حتي وإن كان تكنيكها مازال غضبا بالنسبة إلي تكنيكه. ولكن من الواضح تماما.. أن كريمة بدير قد استفادت كليا من تجاربها مع عوني وخرجت ما تعلمته منه «وكان هذا واضحا تماما في حركات المجاميع في بدء العرض» إلي جانب ما تأثرت به من بعض الأساتذة الأجانب الكبار كجيروم روبنز وسواه. تعبير راقصي ثم أضافت إلي هذا كله روح موهبتها.. ونظرتها التي يمتزج فيها الحس الأدبي بالتعبير الراقص.. ليخرج أمامنا هذا النموذج الجيد الذي رأيناه في «عيون بهية» والذي يجعلنا نحلم بأن نري الكثير منه، وفي نفس اتجاهه ومن خلال الراقصين سيزدادو مع الزمن خبرة وتكنيكا وموهبة ومن خلال عين مخرجة تعرف كيف تري وحساسية راقصة مؤكدة تعلن عن نفسها بقوة. أي أننا أمام مجموعة من العناصر تكاتفت كلها لترفع راية فن شعبي راقص لا يكتفي بالاستحواذ علي جمهور مصري محدود.. بل يطمح إلي توسيع آفاقه ليكسب جمهورا عالميا نحن بأمس الحاجة إلي الاستحواذ علي إعجابه.