في الدورة الأخيرة لمهرجان «كان» السينمائي الدولي والتي عقدت في شهر مايو من العام الماضي، عرض في المسابقة الرسمية الفيلم الروائي الطويل الثالث للمخرجة البريطانية «لين رامساي» بعنوان: «نحتاج أن نتكلم عن كيفين» We need to talk about Kevin المأخوذ عن رواية «ليونيل سيفر» والتي سبق وحولتها اذاعة الBBC إلي مسلسل اذاعي. ويأتي هذا الفيلم بعد غياب 9 سنوات كاملة للمخرجة والتي كانت قد شاركت في مهرجان كان من قبل بمشروع تخرجها Small deaths في مسابقة الافلام القصيرة وحصلت علي جائزة لجنة التحكيم، كما شاركت أيضا خارج المسابقة الرسمية بفيلميها السابقين Ratcatcher و Morvern Callar واستقبل فيلم «كيفن» باحتفاء نقدي شديد وتوقع الكثيرون لبطلة الفيلم «تيلدا سوينتون» الحصول علي جائزة التمثيل عن هذا الدور الاستثنائي الذي قدمته، لكن ذهبت الجائزة في النهاية ل«كيرستين دانست» عن فيلم «ميلانكوليا» للمخرج «لارس فون ترير». المستوي النفسي تدور أحداث فيلم «نريد أن نتكلم عن كيفن» حول «ايفا» «قامت بدورها تيلدا سوينتون» التي تعيش في صراع مع نفسها ومع مجتمعها بعد الجريمة البشعة التي ارتكبها ابنها «كيفن» «قام بدوره ايزرا ميللر» والتي نراها قرب نهاية الفيلم، ونتابع في الفيلم حياتها اليومية متقاطعة مع مشاهد فلاش باك من بداية علاقتها بزوجها «فرانكلين» «قام بدوره جون سي ريلي» الي حملها الاول من «كيفن» ثم من اخته الصغيرة، مستعرضا العلاقة العدائية بين «كيفن» ووالدته، وشعورها بالذنب تجاهه. الفيلم يحمل مستوي نفسيا رئيسيا في قراءته، فعلاقة الأم والابن هي علاقة نفسية دقيقة ومعقدة ويتأسس عليها معظم التكوين النفسي للابن فيما بعد، كذلك الشعور الدائم بالذنب. وهنا راعت المخرجة منذ الدقائق الأولي في الفيلم تقديم مشاهد تعبيرية ربما تحتوي علي معظم ما هو آت في الفيلم. فور كتابة التترات علي الشاشة، نري «ايفا» وهي فيما يشبه بمهرجان الصلصة، حيث يلعب الجميع بصلصة الطماطم الحمراء ويلقونها علي أنفسهم وعلي بعضهم البعض، ونري «ايفا» وهي غارقة في الصلصة ضاحكة ثم يأتي علي وجهها نظرة وجوم، ونشعر ونحن نشاهد هؤلاء الناس الذين يسبحون في السوائل الحمراء وكأنهم يعومون في بحار من الدماء وهم مستمتعون. واللون الاحمر يتكرر استخدامه في الفيلم، فنري الطلاء الأحمر المسكوب علي منزل «ايفا» وسيارتها من قبل جيرانها الكارهين لها ولابنها القاتل، ونراه أيضا مع لقطات مقربة لأرقام الساعات الاليكترونية. وأول مشهد مهم يجمع بين «ايفا» و«كيفن» يكون في محبسه حيث أتت لزيارته، وهومشهد صامت نري فيه «كيفن» وهو يقضم أظافره بأسنانه بعناية ويضعها أمام أمه، وعادة قضم الظوافر بالأسنان عادة سيئة تأتي للعديد من الاطفال، وهنا نفهم أن هذا المراهق السجين يبذل ما في وسعه ليضايق أمه، وهومشهد ملخص للعلاقة التي نري تفاصيلها منذ بدايتها فيما بعد. مكونات نفسية بالنسبة ل«سيجموند فرويد» فإن معظم المكونات النفسية في شخصية الانسان تتحد في السنين الأولي من عمره وتحديدا من خلال علاقته بأبيه وأمه، وهنا تكمن عقدة شخصياتنا في هذا الفيلم، فإيفا ومنذ شهور الحمل الاولي وهي متوترة من هذا الحمل ويكمن بداخلها شعور بعدم الرغبة في الانجاب، الأمر الذي كان يستشعره زوجها مما جعله يندهش عندما أبلغته برغبتها في الحمل. حتي أن في شهور الحمل الاخيرة نراها وهي تشاهد نساء أخريات في شهورهن الأخيرة أيضا، ولكن الفارق بينها وبينهم هو نظرة الثقة والسعادة في وجوههم، وهي تلك الطاقة الايجابية التي حاولت «ايفا» فاشلة أن تستمدها منهم. نري ولادة «كيفن» نفسها ونري التألم الذي تعرضت له «ايفا» في هذه الولادة المتعثرة. ولان الاطفال لديهم شفافية في الشعور بطاقات البشر، فيشعر الرضيع «كيفن» بكراهية امه له، فلا يكف عن الصراخ والبكاء، سواء في البيت أو الشارع لدرجة أنها تستمتع بالوقوف وسط ضوضاء البناء والتكسير لأنها تغطي علي صوت بكائه. يهدأ هذا الرضيع فقط في يد والده الذي يمده بطاقة حب ايجابية لا يشوبها القلق أوالتوتر أو انعدام الثقة بالنفس كما هو حال «ايفا». وعندما يكبر «كيفن» قليلا يظل ينظر لها معظم الوقت نظرات تحد ويحاول مضايقتها باستمرار، بل ويتعمد التعامل علي انه طفل لا يفهم وان كنا نري في نظراته كما تري «ايفا» أنه هو الممسك الآن بخيوط هذه العلاقة وأنه هو المتحكم بثقة في أمه، حتي أنه يلجأ لتعذيبها عن طريق التغوط في حفاضته التي ظل يلبسها بعد أن تجاوز الثالثة حتي تضطر هي لتغيير الحفاضة. وعندما تصارحه أمه بأنها حامل من جديد وأن عليه أن يحب اخته وإن لم يحبها فسيعتد عليها ويحبها، يرد عليها ردا مفحما فيقول «ليس شرطا أن تحب كل ما تعتاد عليه، فأنتي مثلا معتادة علي» وكأنه يقول لها أعرف أنك بداخلك تكرهيني. وتحصل «ايفا» علي نصيب الأسد من سلوك «كيفن» العدواني، الذي يتغير تماما في وجود الأب ليصبح أكثر لطفا. ومنذ يوم مولدها يبدأ «كيفن» في ممارسة عدوانيته علي أخته بطريقة طفولية. إذن نحن هنا أمام علاقة أم لم تحب ابنها منذ أن كانت حاملا فيه، وبالتالي خرج هو عدواني وشديد الدهاء وهو الذي لم يحرك مشاعرها الإيجابية بقوة تجاهه، فدائما ماتبدو غير مستريحة وهي في وجوده. وتتضح كراهية «ايفا» العامة للأطفال وخوفها منهم في مشهد تعبيري شديد الذكاء، فنراها في الحاضر وهي تقود سيارتها أمسية عيد القديسين Halloween ونراها وهي تمر وسط الاطفال الذين تنكروا علي هيئة أشباح وعفاريت وكائنات مخيفة في مشهد كابوسي يعلق في الأذهان، بل انهم يطاردونها لمنزلها ويبدأوا برشق المنزل بالطلاء والحلوي. وهكذا تعيش «ايفا» بعد جريمة ابنها، تزوره في السجن لتجد نظرات التحدي مستمرة، وتعيش وسط مجتمع يكرهها ويضطهدها علي اعتبار أنها أمه وبالتالي لها مسئولية في الحادث، وهي تشعر أن هذا المجتمع علي صواب، فهي نفسها تعيش بذنب وتظل تتذكر تفاصيل علاقتها بابنها التي قد تكون السبب الرئيسي التي جعلته يرتكب جريمته، التي لا نعرف بالتحديد ما هي إلا قرب نهاية الأحداث، كما نعرف أيضا سر اختفاء الأب «فرانكلين» والابنة الصغيرة. فنري في مشهد فلاش باك آخر «كيفن»، وهو مراهق، وهو يقتل فتيات من مدرسته بالقوس بعد أن حبسهم في ملعب كرة السلة. هذا القوس الذي أعطاه له والده والذي تسبب في أن تفقد أخته الصغيرة عينها. وبعد أن تذهب الأم للمدرسة وتري ابنها وهو يقبض عليه بعد ارتكابه الحادث وفي عينيه تحد وتشف لكل أهالي الضحايا، تعود للمنزل وتكتشف أنه قد سبق وقتل الأب والأخت. وعندما تسأله أمه في نهاية الفيلم عن سبب ارتكابه ما ارتكب يرد هو بأنه كان يعرف الاجابة وقتها ولكنه الآن لا يعرف شيئا، ليحتضنا بقوة للمرة الاولي والاخيرة في الفيلم وتخرج هي منتظرة الافراج عنه، فهو في النهاية حدث لا يحكم عليه بالمؤبد أو الاعدام. فيلم مؤلم استطاعت «لين رامساي» أن تصنع فيلما مهما، مؤلما وممتعا في الوقت نفسه، فبرغم أن الحدث الرئيسي وهو الجريمة يصبح معروفا بعد الثلث ساعة الأولي من الفيلم، الا أن الفيلم يعتمد هنا علي عنصر انتظار المتفرج لمعرفة الأسباب، فيظل الفيلم يقدم بالفلاش باك بداية العلاقة وتطورها ويظل تطور الشخصيات العنصر الرئيسي الذي يشد المتفرج لنهاية الفيلم. ولأن الكتابة معتمدة علي بناء وتكوين نفسي عميق ومدروس للشخصيات، يتوحد المتفرج مع الأحداث ويتفاعل معها. ونجحت أيضا المخرجة في توظيف أسلوب الفلاش باك الذي أحيانا يربك بناء بعض الأفلام ويسبب الضجر للمتفرج، ولكن هنا استطاعت المخرجة مع المونتير «جوبيني» ليس فقط في توظيفه ولكن أن تجعل كل المشاهد السابقة ممهدة له سواء بقطعات الصورة أوالصوت فيكون المتفرج علي استعداد نفسي لمتابعته. وكما استخدمت «لين رامساي» السيناريو والتصوير بشكل تعبيري أحيانا، فعلت نفس الشيء مع الصوت، فشريط الصوت وتوزيعه كانا أحيانا يضفيان احساس ما هو فوق الواقع بتعلية صوت بعض المؤثرات أحيانا، بل وتستخدم الbass في صوت المروحة في أحد المشاهد لتضيف التوتر المطلوب للمشهد. ربما كانت ادارتها للممثلين هي التي تحمل بعض التفاوت، فنجد البريطانية القديرة الحاصلة علي الأوسكار «تيلدا سوينتون» تقدم أحد أهم وأفضل أدوارها علي الاطلاق وبوعي شديد يبتعد تماما عن الميلودرامية التقليدية، فمشاعرها تجاه ابنها لا يتم الافصاح عنها بشكل لفظي في الفيلم قدر ما يكون الاعتماد علي أدائها ولغة جسدها اللذين نجحا بالفعل في توصيل الاحساس المطلوب. في حين جاء اداء «جون سي ريلي» مقبولا لكن لا يتجاوز العادي، فيشبه العديد من الأدوار التي قدمها «ريلي» من قبل. أما الشاب «ايزرا ميلر» الذي قدم دور «كيفن» في مرحلة المراهقة، فكان أداؤه ناضجا أحيانا وفي أحيان اخري سقط في بعض الكليشيهات التمثيلية لمثل هذه الادوار، وأذكر أني شاهدت أداء أفضل ل«ميلر» في فيلم Afterschool للمخرج الأمريكي الشاب «أنطونيوكامبوس». تجربة مهمة ويبقي أن أذكر أن فيلم «نحتاج أن تكلم عن كيفين» هو تجربة مهمة تترك أثرا يعلق بالأذهان كثيرة ويثير العديد من الأسئلة بل ويحتاج لأكثر من مشاهدة، ويظل الفيلم بالتأكيد من أهم عشرة أفلام أنتجت عام 2011 حتي وإن تجاهلته جوائز «كان» وال«بافتا» في حين لم يرشح لأي جائزة أوسكار، ولكن حتما نجاح الفيلم النقدي ومستواه المرتفع هما ما سيجعلانه باقيا في تاريخ السينما.