يشبه البحث عن تعريف ملائم ل "العَلمانية" محاولة اللحاق بعربة مسرعة تتحرك في العديد من الاتجاهات. فل "العَلمانية" تعريفات متعددة تختلف باختلاف السياق وتغير الزمان. فالبعض ينظر إليها بوصفها "فصل الدين عن السياسة" والبعض الآخر يعرفها بوصفها "حركة اجتماعية تتجه نحو الاهتمام بالشئون الأرضية بدلاً من الاهتمام بالشئون الآخروية" (دائرة المعارف البريطانية). ولايتخلف الفلاسفة عن الركب فيعرفونها بأنها "التفكير في النسبي بما هو نسبي وليس بما هو مطلق. ومعني ذلك تناول الظواهر الإنسانية والتي هي نسبية بالضرورة بمنظور نسبي وليس بمنظور مطلق" (مراد وهبة). ولايتسع المجال هنا لذكر المزيد من التعريفات التي يعكس تنوعها تعدد أبعاد هذا المفهوم. إلا أن تأمل هذه التعريفات يكشف عن تضمنها مجموعة من العناصر المشتركة. وهي العناصر التي تشكل مجتمعة ما يمكن أن نطلق عليه اسم "الثقافة العلمانية". وهي الثقافة التي تشكلها مجتمعة المكونات التالية: "تمكين الإنسان"، "أولوية المعرفة البشرية"، "إنسانية الأخلاق" و"سنة التطور". والنظر إلي العلمانية ك "ثقافة" يساعدنا علي تفهم الدور الذي تلعبه العلمانية في الارتقاء بأحوال المجتمعات التي تتبناها كفلسفة حكم ومنهج حياة. تمكين الإنسان يعني المكون الأول للثقافة العلمانية، "تمكين الإنسان"، أي رد الاعتبار للإنسان وتمكينه من لعب الدور الرئيسي والمحوري في إدارة شئون دنياه وذلك باستخدام ملكاته الفكرية وقدراته الذهنية فقط. فالإنسان طبقا لهذا المكون هو "سيد مصيره" و"مهندس واقعه" الأوحد والوحيد. وتمكين المجتمع لأفراده يعني سعيه الدؤوب، وبكافة الطرق، علي تزويدهم بالمعرفة المتجددة سواء كانت معارف نظرية أو مهارات عملية وإتاحة الفرص أمامهم للعب أدوار إيجابية في تسيير شئونه. وتنمية الرصيد المعرفي لأفراد المجتمع يؤدي بالضرورة لزيادة "رأس المال الفكري القومي" للمجتمع ككل. وهو رأس المال الذي يعرفه أصحابه بأنه "مجموع الموارد غيرالمادية التي يمتلكها أفراد ومؤسسات دولة ما وتسهم إسهاما إيجابيا في تقدمها علي الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي". كما يؤدي وجود هذا المكون في الثقافة السائدة لمجتمع ما إلي إعلائه لقيم الإبداع والابتكار في جميع المجالات. لذا نري هذه المجتمعات تنشئ علوما ل "إدارة الابتكار" وتؤسس منظوماتها القومية للابتكار. فرفاهية مجتمعات ما بعد الحداثة تقوم علي"الصناعات المرتكزة علي تكثيف العقول". ولقد تجاوزت أهمية هذه الصناعات أهمية "الصناعات المرتكزة علي تكثيف رأس المال" وجاعلة "الصناعات المرتكزة علي تكثيف العمل"، السائدة في بلدان العالم النامي، من حفريات التاريخ. وما صناعة برمجيات الحاسب او تلك المعتمدة علي الهندسة الوراثية إلا أمثلة لهذه الصناعات. أولوية المعرفة البشرية يهتم هذا المكون بالدور المحوري والرئيسي الذي تلعبه المعرفة التي ينتجها الإنسان في تقرير أحواله. و"المعرفة البشرية"، في هذا السياق، هي مجموع ما يؤمن به الإنسان من "اعتقادات صادقة ومُبَررة". وتشمل الاعتقادات كل مانعتبره صحيحا من تفسيرات أو تقييمات أو استنتاجات أو توقعات، وما يطرحه علينا الآخرون من معتقدات. ويتطلب اعتبار أي اعتقاد كمعرفة تمتعه بخاصيتين هما خاصية "الصدق" وخاصية "متانة التبرير". وخاصية "الصدق" هذه تعني إمكانية التحقق من صحة أي اعتقاد بالرجوع إلي الواقع لملاحظة آثاره علي أحوال هذا الواقع، وبعدم تناقضه مع ماهو مستقر من معارف. أما ثاني صفات "المعرفة البشرية"، "متانة التبرير"، فتتعلق بطبيعة "البينات (أو الأمارات)" التي تدعم الاعتقاد، وتعني تجنب "البينات الحكائية (الحكايات)" التي يصعب التأكد منها و"البينات الشهادية (الشهادات)" التي تفتقد للإجماع. واليوم لاتوجد أداة ذهنية أقدر علي إنتاج المعرفة من "منظومة العلم الحديث". فلقد أثبتت هذه المنظومة فعاليتها في تغيير ظروف المجتمعات التي تبنتها نحو الأفضل علي جميع الأصعدة والمستويات. فهي المنظومة التي لاتعوق حركتها فروض مسبقة أو أحكام مقَيدة، وتستشعر الواقع المعاصر ومتغيراته وتسعي لإيجاد حلول لمشاكله مستمدة منه ومتوائمة مع ظروفه. أداة ذهنية تتوفر لديها آلية للتصحيح الذاتي تجعلها قادرة علي المراجعة المستمرة لما تنتجه من معرفة والتكيف الدائم مع أحوال الواقع المتغيرة. ولعل أهم ما يميز المعرفة التي تنتجها هذه المنظومة هو أنها ليست "مقدسة" فهي تخضع للمراجعة الدائمة والتدقيق المستمر. فالتحقق من صدق أي مقولة أو فكرة تتعلق بأي شأن من شئون الواقع يتم عبر مقارنتها مع أحوال هذا الواقع الفعلية وتحديد مدي تطابقها وملاءمتها مع تلك الأحوال. والمعرفة البشرية، أو المعرفة العلمية، تشكل الأساس الذي تقوم عليه المجتمعات ما بعد الحديثة التي يطلق عليها "مجتمعات المعرفة". فرفاهية هذه المجتمعات تقوم علي أمرين. أولهما هو قدرة المجتمع علي إنتاج معرفة علمية وثانيهما هو قدرته علي توظيف واستخدام هذه المعرفة في تحسين أحوال أفراده. ولا يقتصر استخدام المعرفة العلمية علي مجرد إنتاج سلع مصنعة تلبي حاجات أفراد المجتمع بل يتسع ليشمل الاستعانة بها في رفع كفاءة الخدمات المقدمة لهم وفي دعم عمليات اتخاذ القرار علي جميع المستويات. كما تقوم اقتصاديات تلك المجتمعات في المقام الأول علي "الصناعات المرتكزة علي العلم" كمصدر للقيمة وكوسيلة لتحقيق مزايا تنافسية تنعكس آثارها علي اقتصاد المجتمع ككل. إنسانية الأخلاق ترتبط الأخلاق في الثقافات التقليدية ارتباطا وثيقا بالديانة السائدة في المجتمع. فأوامر ونواهي هذه الديانة هي، بالنسبة لأتباعه، ثوابت واجبة الاتباع ولانقض فيها أو إبرام. وفي المقابل يقوم المكون الثالث من مكونات الثقافة العلمانية، "إنسانية الأخلاق"، علي مبدأ مؤداه أن معرفتنا بالصواب والخطأ ترتكز، في الأساس، علي فهمنا لطبيعة الإنسان ولطبيعة المصالح المشتركة لأفراده. ويؤدي تبني هذا المبدأ إلي ترسيخ قواعد سلوكية، فردية واجتماعية وسياسية، يتم الحكم عليها بمدي إسهامها في رفاه حياة الإنسان. ويتعزز هذا المبدأ بمبادئ أخري من أهمها "القاعدة الذهبية" و"مسئولية الإنسان" و"عقلانية الأحكام". و"القاعدة الذهبية" هي تلك التي تنص علي "أحب لأخيك ما تحبه لنفسك". أما "مسئولية الإنسان" فتعني مسئولية الإنسان الكاملة الآنية وغير المؤجلة عن نتائج أفعاله أمام نفسه وأمام مجتمعه. ويؤكد مبدأ "عقلانية الأحكام" علي قدرة الإنسان، عبر استخدامه للعقل والمنطق، علي التوصل لمبادئ حاكمة لما يجب علي الإنسان تبنيه من سلوكيات. سنة التطور يقوم هذا المكون علي مبدأ مؤداه أن التغير والتبدل والارتقاء هو القانون الحاكم لأي كيان. وهو المبدأ الذي تتعدد شواهده في كل من عالم المنظومات الطبيعية (المادية) وعالم المنظومات الإنسانية (الاجتماعية). فلقد علمتنا دراسة ظواهر الانتظام الذاتي، التي تحدث في المنظومات المادية غير الحية، أن للمادة الصماء تاريخا مبدعا وخلاقا إذ تفرز تلك المنظومات بمرور الزمن أشكالا وبني جديدة أكثر رقيا وحداثة من سابقتها وأن أحوالها ترتقي دوما من أوضاع بسيطة وساذجة إلي أوضاع أكثر تعقيدا وتطورا. ومغزي هذا المبدأ هو أن "الغد هو الأفضل دائما"، وأن المستقبل هو الزمن الذي سيجسد فيه المجتمع أحلامه المتجددة وتطلعاته المشروعة ويقيم فيه عصره الذهبي بأيدي وأفكار أبنائه المعاصرين. أي أنه المستقبل القابل للتحقق علي أرض الواقع عبر العمل الواعي والمنظم والمخطط لأفراد المجتمع. والماضي من منظور هذا المبدأ لايمثل عصرا ذهبيا ينبغي إعادة إنتاجه بل هو فقط مادة للنقد والتحليل لاستخلاص الدروس المستفادة.