وكانت شعبية الرئيس أوباما قد لاقت عدة ضربات متتالية في الآونة الأخيرة بسبب حجم الإنفاق الحكومي الذي وصل إلي حد استنزاف الاقتصاد القومي لتمويل حروب الولاياتالمتحدة ضد الإرهاب في الشرق الأوسط و لتدعيم توجهاتها كقوة أحادية تحاول الحفاظ علي هيمنتها في العديد من المناطق الإقليمية. وكما أشار أوباما في خطابه، فهو يؤمن بأن الولاياتالمتحدة عليها أن تقوم بكل ما يمكن القيام به "للدفاع عن نفسها وتأمين مستقبل أفضل لها وللعالم"، وهو ما يعني استنزاف الاقتصاد القومي من أجل دعم الدور الأمريكي في العديد من المناطق من أجل تأمين تحول ديمقراطي لشعوب مختلفة مثل إيران و أفغانستان وكوريا الشمالية، وهو الدورالذي يختلط بورقة الحفاظ علي الأمن القومي الأمريكي. وأشار أوباما إلي الاستثمارات التي قامت بها الولاياتالمتحدة لتدعيم أمنها القومي وتدعيم جهاز استخباراتها ومواجهة الإرهاب حفاظاً علي أرواح الأمريكيين وذلك عن طريق الشراكة القوية مع شركاء في جميع أنحاء العالم من المحيط الهادي إلي جنوب آسيا إلي الجزيرة العربية، وهو ما أدي إلي تسجيل رقم قياسي في القتل والقبض علي مئات من عناصر تنظيم القاعدة. كما أشار إلي زيادة عدد القوات في أفغانستان وتدريب قوات الأمن الأفغاني استعداداً لسحب القوات الكامل في يوليو من العام المقبل. وفيما يخص العراق، أكد أوباما علي أنه حقق الوعد الذي أطلقه أثناء حملته الإنتخابية من إنهاء الحرب هناك حيث تستعد القوات القتالية الأمريكية لمغادرة العراق نهائياً في أواخر أغسطس المقبل. واستهل أوباما خطابه بالحديث عن الوضع المالي قائلاً إنه في عام 2000 كان للولايات المتحدة فائض ميزانية يقدر بنحو 200 بليون دولار ولكن بحلول عام 2009 عندما تولي أوباما مهام الرئاسة كانت الولاياتالمتحدة تعاني منذ أكثر من عام من عجز ميزانية يقدر بنحو 1 تريليون دولار ومقدر له أن يصل إلي 8 تريليونات دولار بحلول عام 2020. وحدد أوباما أن هذا العجز تسبب فيه دفع تكاليف الحرب في أفغانستان و في العراق، وتقليص الضرائب، وتغطية تكاليف إصلاح برنامج التأمين الصحي، بالإضافة إلي تكاليف الخروج من الكساد الاقتصادي. قانون توظيف جديد وطرح أوباما تجميد الإنفاق الحكومي لمدة ثلات أعوام وهدد باستخدام حق الفيتو الممنوح له إن اضطر إلي ترشيد الإنفاق غير أنه استثني الإنفاق الحكومي المتعلق بشئون الأمن القومي والتأمين الصحي والتأمين الاجتماعي. وحدد أوباما أن الأولوية في تناول الميزانية ستكون لضمان تحقيق مصالح الطبقة المتوسطة التي تضررت كثيراً في الآونة الأخيرة. و لذلك وعد بتقليص مزيد من الضرائب المستحقة علي الطبقات المتوسطة في الوقت الذي سيقوم فيه بإلغاء أي تقليص ضريبي علي شركات البترول، وشركات الاستثمار وعلي كل من يزيد دخله عن 250 ألف دولار سنوياً. خطاب أوباما أكد أن حال الاتحاد لا يزال قوياً علي الرغم من الهموم الاقتصادية الكبيرة لسبب رئيسي -علي حد قوله- وهو استمرار صمود القيم الأمريكية التي تعبر عنها الأسر البسيطة التي لا تزال تصمد علي الرغم من معاناتها اليومية، و لذلك أكد أوباما أن توجهاته الجديدة ستكون من أجل هذه الأسر البسيطة و من أجل أولئك الذين وجدوا أنفسهم بلا عمل بسبب الكساد الاقتصادي ويقدرون بنحو 10 بالمائة من المجتمع الأمريكي. وطالب أوباما بمشروع قانون توظيف جديد لتعويض الثماني ملايين وظيفة التي فقدت ولمكافحة البطالة، وعرض في خطابه لطرق متعددة لتحقيق ذلك كان علي رأسها مضاعفة حجم الصادرات الأمريكية كخطة خمسية تهدف إلي خلق نحو مليوني وظيفة من ناحية، وإلي تسهيل عمل صغار المزارعين والمنتجين لتصدير منتجاتهم عن طريق طرح مبادرة التصدير القومي التي ستسعي لإصلاح قوانين التصدير بما يتوافق مع الأمن القومي كما ستسعي للبحث عن أسواق جديدة في مواجهة المنافسين. كما أشار أوباما إلي أنه ينبغي تشجيع صغار المستثمرين ورجال الأعمال عن طريق فرض الرسوم علي المصارف، وتبني برنامج عمل لإعانة المصارف الصغيرة والشركات المتوسطة والصغيرة، مضيفاً "الليلة أقترح أن نأخذ 30 بليون دولار من المال الذي استعدناه من وول ستريت لنستعمله لإعطاء الشركات الصغيرة القروض التي تحتاجها لتبقي عائمة أو لتتمكن من رفع الأجور". في الوقت نفسه، ربط أوباما بين إصلاح التعليم والتركيز علي نبوغ الطلاب في العلوم والرياضيات والتركيز علي دور الإبداع وبين خلق الوظائف حيث اعتبر أن الاستثمار في التعليم هو أساس تأهيل الشباب للعمل، ولا يكون هذا الاستثمار في التعليم الثانوي فحسب ولكن في التعليم الجامعي أيضاً، ودعا إلي تسهيلات في قروض الطلاب وخفض الأرباح علي هذه القروض بحيث تتمكن الأسر من تعليم أبنائها تعليماً جامعياً لأن ذلك هو الضمان الوحيد لإيجاد وظيفة ورفع دخل الأسرة. السياسة الخارجية وغاب عن خطاب أوباما أي حديث عن عملية السلام في الشرق الأوسط، وتحدث باقتضاب عن السياسة الخارجية. واكتفي بتوجيه التهديد لكل من إيران و كوريا الشمالية بالوقوع في المزيد من العزلة إذا ما استمرتا في برنامجهما النووي. و في سياق حديثه عن السباق النووي، أشار أوباما إلي الجهود المبذولة مع روسيا لتأطير الحد من انتشار الأسلحة الاستراتيجية مؤكداً أنه يتم التجهيز لعقد قمة خاصة لتأمين المنشآت النووية، وأضاف "ستجتمع 44 دولة خلال قمة خاصة بأمن المنشآت النووية في أبريل المقبل من أجل تحقيق هدف واحد: تأمين جميع المواد النووية حول العالم خلال أربع سنوات لئلا تقع في أيدي الإرهابيين". كما أعلن أوباما عن خطة لمكافحة الإرهاب البيولوجي والأمراض المعدية. كما أشار أوباما إلي أن علي الولاياتالمتحدة أن توجه مزيداً من الاهتمام الداخلي بتطوير الطاقة النظيفة وتمويل الأبحاث في هذا المجال، و أضاف "أجرينا العام الماضي أكبر استثمار في التاريخ في تمويل البحث الأساسي، وهو استثمار يمكن أن يقود إلي أرخص خلايا شمسية في العالم أو أرخص علاج لشفاء الخلايا السرطانية مع الإبقاء علي الخلايا السليمة". وفي سياق الحديث عن استثمار الطاقات البشرية و الإبداعية، قارن أوباما الوضع بما يحدث في دول مثل الصين و ألمانيا والهند واصفاً إياها بأنها دول لا تقبل بأن تأتي في المقام الثاني ولذلك فهي تعيد إحياء اقتصادها وبناء بنيتها التحتية والتركيز علي العلوم والرياضيات وتكثيف الاستثمار في تطوير الطاقة النظيفة، مضيفاً "أنا لا أقبل بالمركز الثاني للولايات المتحدةالأمريكية". وتأتي هذه الإشارة في إطار الرد علي الباحثين القائلين بأن الولاياتالمتحدة تتهدد مكانتها كقوة قطبية أحادية مهيمنة علي العالم منذ انتهاء الحرب الباردة اقتصادياً و عسكرياً و اقتصادياً وثقافياً من قوي مثل الصين و الهند و الاتحاد الأوروبي. وكان بعض هؤلاء قد أشاروا إلي أن الولاياتالمتحدة ربما تخسر هيمنتها أمام هذه القوي بسبب السلبية التي لحقت بصورتها منذ قرارها الخوض في حروب الشرق الأوسط من ناحية، و بسبب ازدياد نفوذ اليمين الديني المحافظ والمعادي لقوانين الهجرة و للمهاجرين ولا سيما من ذوي الأصول اللاتينية. وكان المفكر الأمريكي صامويل هانتينجتون قد حدد هذه المشكلة في كتابه "من نحن؟ الهوية الوطنية الأمريكية"، و قال إن الليونة في قوانين الهجرة سوف تؤثر في الهوية الوطنية الأمريكية و تتسبب في ضياع الهوية الأنجلو-البروتستانتية المؤسسة للدولة الأمريكية و هو ما انتقده كثيرون علي أساس أنه تناسي للتاريخ الأمريكي الذي صنعته طاقات المهاجرين. غير أن أوباما أشار في خطابه إلي أنه سيطالب بإصلاح قوانين الهجرة بما يتناسب مع الأمن القومي الأمريكي وبما يضمن قبول المهاجرين الذين ستضيف طاقاتهم و إبداعاتهم للمجتمع الأمريكي و لرخائه. لهجة أكثر واقعية خطاب أوباما الأول عن حال الاتحاد اختلفت لهجته تماماً عن خطبه الواعدة أثناء حملته الانتخابية وفي الشهور الأولي من رئاسته، تلك الخطب التي دوماً ما صاحبها لفظي "الأمل" و "التغيير". وعود أوباما يبدو أنها اعتركتها تفاصيل الواقع و متطلبات الاقتصاد المتدني وضغوط عجز الميزانية المتزايد. أوباما تمسك في خطابه بالتفاؤل ولكن في سياق واقعي يعترف بحجم المشاكل التي تواجهها إدارته ويسوده شعوره بانخفاض شعبيته خاصة مع اقتراب موعد انتخابات منتصف الولاية في نوفمبر المقبل التي يتم فيها تجديد ثلث اعضاء مجلس الشيوخ وجميع أعضاء مجلس النواب، و يرجح الكثيرون بأنها ستشهد عودة قوية لتأثير الجمهوريين. وهو ما عبر عنه في خطابه بالإشارة إلي ضرورة زيادة تنسيق العمل بين الديمقراطيين والجمهوريين الذين اتهمهم بعرقلة إقرار القوانين بدوافع انتخابية وبزرع الشقاق بين المواطنين. علي الرغم من النقد اللاذع الذي تعرض له أوباما بسبب تجاهله للسياسة الخارجية في خطابه ولا سيما لتجنبه الحديث عن عملية السلام في الشرق الأوسط، فأن المتتبع للخطاب يري أن أوباما بناه بالكامل لمخاطبة الطبقة المتوسطة والأسر البسيطة التي دفعت ثمن توجهات السياسة الخارجية الأمريكية ليس فقط اقتصادياً و إنما بفقدان جنودها في حربي العراق و أفغانستان. بدا أوباما في الخطاب متناقضاً حيث أشار إلي أولوية الأمن القومي و من ثم تبرير الإنفاق لتعزيز الأمن القومي وتعزيز صورة الولاياتالمتحدة كدولة مهيمنة، ولكنه في الوقت نفسه يعرف أن ثمن هذا الإنفاق باهظ الثمن داخلياً، واكتفي أوباما فقط بالإشارة إلي أن حربي العراق وأفغانستان ستنتهيان عما قريب علي الرغم من إغفاله الحديث بالتفصيل عن معني و ثمن مواصلة الولاياتالمتحدة لدعمها لشعبي العراق و أفغانستان. تركيزه علي الوضع الداخلي بشكل كامل جاء معبراً عن حجم الشعور بالثمن الباهظ للسياسة الخارجية و محاولة استمداد القوة من استقطاب الطبقة المتوسطة وشحذ همتها لمواصلة الإصرار علي تخطي الأزمات الاقتصادية.