الشاعر المصري شريف الشافعي قليل الظهور بشخصه، وإن كان حاضرًا دائمًا بنصه، هكذا ارتضي لنفسه، وهكذا نلمس تأثيره في المشهد الشعري المصري والعربي الراهن. علي مدار ثمانية عشر عامًا منذ باكورة أعماله "بينهما يصدأ الوقت" (1994)، أصدر الشافعي (المولود عام 1972) خمسة دواوين، كانت دائمًا مثار اهتمام من النقاد والمختصين، خصوصًا تجربته متعددة الأجزاء "الأعمال الكاملة لإنسان آلي"، المكتوبة بلسان روبوت ثائر متمرد، وتعد أبرز أعماله وأكثرها رواجًا، وقد اختيرت للتدريس في جامعة "آيوا" الأمريكية و"جامعة الكويت" بوصفها "تمثيلاً لقصيدة النثر الحيوية، ونقطة التقاء الإبداع الورقي والأدب الإلكتروني". حول ديوان الشافعي الجديد "غازات ضاحكة"، وقضايا إبداعية وثقافية أخري، كان لنا هذا اللقاء مع الشاعر، الذي يقيم في الوقت الحالي بالسعودية، في إجازة مؤقتة من عمله الأساسي صحفيا بمؤسسة الأهرام. أعمالك الأبرز جاءت وأنت علي سفر، هل يتطلب الشعر المثير للدهشة أن تكون الريح تحتك؟! هل فجَّر الاغتراب طاقاتك بصورة أرحب؟ - السفر يغري بالسفر، ويغري أيضًا بالكتابة، لأن الكتابة سفر آخر، ارتحال دائم، حالة من عدم الاستقرار، لهاث خلف الذات، خلف الآخر، خلف المجهول: (نقطة حبر أراني، لم توضع فوق حرف ثابت، ومساحة ما، لم تتشكل بعد). أنا ابن السفر، ابن السؤال، ابن الاغتراب، ابن الحياة، ابن الكتابة. وتبقي الإجابات التي تروي هذا الظمأ كله معلقة، إلي أن ينظر العالم بعيون الرحمة إلي المرتحلين والضالين والمتسائلين، أو حتي يطلق رصاصات الرحمة عليهم: (الغريبُ، الذي يعبرُ الطريقَ/ ليس بحاجةٍ إلي عصا بيضاءَ، ولا كلبٍ مدرّبٍ/ هو بحاجةٍ، إلي أن تصير للطريقِ عيونٌ، تتسعُ لغرباء)، هكذا يقول الآلي في "غازات ضاحكة". قصيدتي دفء حميم في مواجهة الغربة، ومواجهة أي صقيع يهدد الذات والحياة. اغترابي عن مصر قرابة خمسة أعوام له دور بلا شك في تفعيل تجربة "الأعمال الكاملة لإنسان آلي"، حيث تحرم الغربة الإنسان من كثير من سمات الحياة العادية الطبيعية. لم نعتد علي إصدار متتالية شعرية أو تجربة ممتدة في أكثر من كتاب، ماذا يضيف ديوانك الجديد "غازات ضاحكة" (الصادر عن "الغاوون") إلي تجربتك "الأعمال الكاملة لإنسان آلي"؟ وهل تنتظر أن يحقق ما حققه الجزء الأول من حضور لم ينقطع علي مدار أربع سنوات متصلة؟ وبصراحة شديدة هل هذا الجزء الثاني استثمار لنجاح الجزء الأول "البحث عن نيرمانا بأصابع ذكية"؟! -بالنظر إلي عنوان "الأعمال الكاملة لإنسان آلي"، ندرك علي الفور أنها تجربة متعددة الأجزاء منذ البداية، وقد حمل غلاف الجزء الأول في طبعته الأولي عام 2008 عنوانًا تمهيديا هو (الأعمال الكاملة لإنسان آلي1)، وهذا الترقيم يعني بوضوح أن هناك أجزاء أخري، لأنني بالفعل بدأتُ العمل فيها كلها معًا. أما إصدار أي جزء في كتاب فإنه يتوقف علي اكتماله كديوان مستقل يمكن أن يقرأ بذاته، وهذا ما أري أنه تحقق حتي الآن في ديوانين فقط: "البحث عن نيرمانا بأصابع ذكية"، و"غازات ضاحكة"، وربما يتحقق بعد ذلك، وربما لا يتحقق مرة ثالثة، إذا رأيتُ أن مدوّنات الآلي الأخري لا تقدم جديدًا أو منفردًا يصلح ككتاب قائم بذاته. ولو أن الأمر استثمار لنجاح لما انتظرتُ أربع سنوات كاملة بعد الصدي الطيب الذي حققه الجزء الأول، والطبعات المتتالية واتفاقيات التوزيع في أكثر من دولة. إن إصداري كتابًا جديدًا مرهون بأمر واحد فقط، هو أن يكون عندي كتاب جديد بالفعل، والجدة هنا بكل معني الكلمة. لكن، علي أية حال، يمكن القول بشكل عام إن الجزء الأول شهد إطلالة الآلي علي أمل الارتداد إلي إنسانيته المفقودة، وبحثه المضني عن ذاته المغيبة، في حين شهد الجزء الثاني تفاعلات الآلي المباشرة مع مشاهد الحياة وتفاصيلها، ليثبت بالفعل البسيط الملموس أنه إنسان إنسان، وليس إنسانًا آليا، وأن العالم، ذلك الضيف الراحل، قد يعود ذات صباح (ما أجمل الصباح الذي يحضر فجأة، ربما في الصباح!). الحياة الشهية الطازجة مفتاح أساسي لفهم تجربة "غازات ضاحكة"، هلا حدثتنا عن ذلك الصراع بين الحقيقي والزائف، وهو ما نستشفه في الغلاف، حيث يظهر وجه آدمي علي هيئة شاشة كمبيوتر، يفتح فمه كأنه يضحك، كما تتصاعد فقاعات غاز الضحك في الهواء، وإلي أين يقودنا هذا الصراع؟ - لا يقبل الإنسان الآلي أبدًا علي امتداد تحركاته إلا بالحياة الشهية التي يتقصاها، ويقتنصها، وربما يخلقها خلقًا في بعض الأحيان. إنها البديل الضروري دائمًا عن روتين يومي لا يطاق. يحمل ظهر الغلاف مقطعًا يقول فيه الآلي: "لستُ صاحبَ مواهب استثنائىّةٍ/ صدِّقوني/ أتدرون: كيف عرفتُ/ أن هذه اللوحةَ لوحةٌ زائفةٌ؟/ لأنها ببساطةٍ لَمْ تكتشفْ/ أنني لحظة نظري إليها/ كنتُ إنسانًا زائفًا". وتمثل لوحة الغلاف، وجهًا إنسانيا جامدًا بملامح شاشة كمبيوتر، يضحك ضحكة مصنوعة. أما الضحكة الصافية الصادقة (الابتسامة الأورجانيك كما في النص، فلا ييأس الآلي أبدًا من محاولة اصطيادها: "حياةٌ واحدة لا تكفي، لاعتناق امرأةٍ مبتسمةٍ". إن غاز الضحك أو الغاز المضحك (أكسيد النيتروز)، ببساطة شديدة، هو غاز يستعمل حاليا في التخدير قبل جراحات الفم والأسنان، وكان يستخدم قديمًا في حفلات الأثير (المرح ونسيان الألم)، حيث تنجم عنه انقباضات في عضلات الفكين، فيبدو الفم منفرجًا كأنه يضحك، في حين أنه مخدَّر في حقيقة الأمر، ومهيأ لإجراء جراحة مؤلمة. هل تري أن تجربتك نالت ما يليق بها من استحقاق نقدي وإعلامي وتسويقي؟ - إلي حد مقبول، وهذا يسعدني، لكن الذي يؤسفني أن هذا الحد المقبول خارج مصر في أغلب الأحوال، خصوصًا في دول المغرب العربي ولبنان وسوريا، حيث يوزن الشعر بميزان الذهب تحت الأضواء البراقة، بعيدًا عن ثقافة "العلاقات العامة"، وهذا ما دفعني بكل صراحة إلي نشر دواويني الأخيرة خارج مصر، فهو إذن سبب فني بحت. أيضًا من جهة التسويق، فالتوزيع خارج مصر أفضل بكثير، حتي في دول الخليج العربي من خلال منفذ البحرين (مكتبة فراديس). هل ما يطلق عليه "شعر الثورة"، والذي يملأ الفضاء هذه الأيام في أعقاب الثورات العربية، أنموذج جيد في تصورك للقصيدة الجديدة المتمردة؟ - دون مجاملة، "شعر الثورة" هذا، الذي تتحدث عنه، لا هو شعر، ولا هو ثورة! ففي تصوري أن دعوة الشعر إلي الحرية أو الهتاف باسمها في الميادين شيءٌ، وتحقيقه الحرية بيديه في ميدانه هو شيءٌ آخرُ، كذلك عندما تصفق قصيدةٌ لثورة أو حتي تباركها قبل اندلاعها أمرٌ، وأن تكون القصيدة بذاتها ثورةً مكتملةً أمراً آخر. الشاعر مراهن دائمًا علي أدواته هو، احترامًا منه لاستقلالية الشعر، وغناه، واستغنائه، وقدرته علي أن يفعل، لا أن يكون صدي صوتيا لأفعال. أما الازدواجية بعينها، بل الفكاهة المؤلمة، فهي أن تمجِّدَ قصيدةٌ قيمةَ الحرية، وتغذِّي وقودَ الثورة، في حين تجدها الذائقةُ الفنيةُ نصا مقيدًا بتبعيته لغيره، وآلياته المعادة. تطل علينا الحرية بوجوه ومفاهيم كثيرة، ومن ثم تتباين تجلياتها في التجربة الشعرية الحديثة، التي رفعت الحرية شعارًا لها منذ الرواد، حتي آخر أجيال قصيدة النثر. بل إن الشعر الجديد نفسه تسمي باسم "الشعر الحر" في بعض مراحله، واقترن مفهوم الحرية وقتها بفعل فيزيائي هو كسر عمود الخليل، بغض النظر عن العوامل الأخري. الحرية التي أري أن القصيدة أهل لها، هي ببساطة حرية الوجود والتحقق والتفاعل والاكتفاء الذاتي، أي أن تكون القصيدة هي "فعل التحرر" علي كل المستويات. هل تري أن الحب محرض دائم علي الكتابة، أم أن الخسارة قد تشعل النص في المخيلة؟! - وهل الحب مكسب علي طول الخط؟! ألا تري فيه أية خسارة؟! لا أعزل الكتابة عما وراءها، لكنني أراها كما قلت لك فعلاً مكتملاً، وليست رد فعل، ولا استجابة لتحريض. الكتابة بحد ذاتها تجربة وحياة، وهي أيضًا حُبلي بتجارب متشابكة متناقضة، وبحياة ثرية، بل حيوات. الكتابة حريق قائم، وكلُّ ما يحياه الإنسان وقودٌ يغذّي كتابته، وليس هناك وقود بارد، وآخر متفجر.