تعتبر هذه المسرحية «الحبل» من أعمال أونيل ضمن سلسلة مسرحيات «البحر» التي لها في مسرحه أهمية خاصة ان رسم أوجين أونيل وشخصياته المسرحية المرسومة بدقة متناهية. إذ هو يمنحها قبلة الحياة ليمنح من يجسدها المتعة في التلقي، كذلك فإن مسرحية الحبل تعتبر من أكثر الأعمال مرارة وهي كذلك الأكثر نضجا خلال الفترة الممتدة حتي 1918 لأنها بمثابة الدراسة العميقة عن البغضاء وأن الشخصية الرئيسية فيها «إبراهام بنتلي» ذلك الرجل النحيل شديد الوطأة ذلك الجندي المسيحي المتدين من أهالي «نيو انجلند» الذي يشبه إلي حد كبير شخصية «افرايم» في أحد نصوص أونيل الشهيرة والجميلة «رغبة تحت شجر الدردار» وتعرض المسرحية مجموعة كريهة من الشخصيات يصل البعض منها حد السخف في إشارة الضحك ورغم أنها مليئة بالحديث عن تاريخ الشعوب القديم، إلا أن فيها أحيانا جمالا رزينا! قال عنها أونيل بعد أعوام من كتابتها: إنه لمن النادر أن يكون هناك جمال دون أن يكون هناك جذور ضاربة في القبح أو فيما يبدو أنه قبيح ومن واجب الفنان أن يقع علي الجمال الذي سيتبطن كل شيء في العالم ثم يتمثله شعوره ثم يكشف عنه للملأ. شكل مختلف ومسرحية الحبل هي الأولي من نوعها بين المسرحيات التي لجأ أونيل فيما تلا من أعوام، إلي تطويرها في شكل فني ذي قوة وتأثير، وتنشأ عن هذه المسرحية كل من «مختلف» و«عن رغبة تحت شجر الدردار» ووفاة بائع جوال وكل هذه المسرحيات إنما تمثل إشراقا غنائيا صادرا من الوجه الآخر للحياة وكلها تراتيل تمجد حيوية هذا الإنسان، فهي أي مسرحية الحبل هي الهدف الذي وصل إلي مرماه الذي أراده أونيل تماما هذا عن النص، فماذا عن العرض المسرحي علي مسرح الطليعة. الإضاءة ولعلي في هذا المقال أعلي من قيمة وأهمية الإضاءة لهذا العرض لأنها هي رسمت الإطار العام وأدخلتنا كمشاهدين إلي الجو الذي وصفه تماما أونيل وحافظ عليه كذلك الفنان صاحب الرؤية التشكيلية إذ التعبير التشكيلي، فمن واقعية الطرح التشكيلي إلي جماليات وحرفية للضوء كان الكادر المسرحي داعيا وموحيا بأننا عرض تضافرت فيه كل الجهود وليكون نموذجا مغايرا لكثير من العروض التي انتجها البيت الفني للمسرح خلال أعوام مضت، وإن كان مسرح الطليعة في محاولته في هذا الموسم 2012 يعمل علي ترقية العروض خاصة حينما قدم قبل شهر من حبل أونيل مسرحية «ساحرات سالم» ل «آرثر ميلر» ، ومعني هذا أن مسرح الطليعة يسعي لإعادة هويته التي فقدها في أعوام ما قبل ترك المخرج سمير العصفور لإدارته، وأن مدير الطليعة الآن ماهر سليم يحاول أن يصمد بغية استعادة ما فقده الطليعة من معني للطليعية والتجريب. جماليات العرض ونعود إلي مفردات العرض، كما ذكرت أهمية وجماليات الديكور والإضاءة، نقول عن الموسيقي التصويرية لهذا العرض وكذلك المؤشرات الصوتية له علي انها هيئة الجو العام ووضعت اللحظة المرئية في حالة سمعية تضافرت فيها كل مفردات العرض المسرحي من أجل إظهار جماليات النص، وذلك من خلال وعي ادراكي وحرفي للمخرج الذي قدم أفضل ما لديه من خيال وتخيل وأمانة في الطرح من خلال ثقافة درامية أكدت أن المخرج موهوب ودارس وهو شيء نادر في أيامنا هذه. صوت البحر وصوت الضمير العرض يبدأ بمؤثر صوتي لصوت البحر والضوء يكشف لنا البعد التشكيلي للمكان ثم يظهر البشر الذين يحملون علي كواهلهم مهمة توصيل المعني الإنساني المطروح لقضية هي قضية للآن وغداً والبارحة فأمامنا سويني وزوجته اللذان يحلمان بموت لوقا بغية حصولهما علي ما يدخره، أو لنقل مايكنزه من مال ليظهر الفنان عاصم رأفت ليجسد دور بنتلي الأب الطاعن في العمر في أداء هو السهل الممتنع إذ كان واقعيا مقنعاً بأن هذه الواقعية هي من أحلي سمات المدرسة الطبيعية، سواء في الأداء التمثيلي أو في تظافر المفردات المكونة للحالة المشهدية. وأن التمثيل عند عاصم رأفت يشير إلي أنه يمتلك الخبرة التي تؤهله لمكانة مرموقة في مجال التمثيل، فوق معرفتي به كمخرج مسرحي متميز كذلك، فلقد كسر القاعدة بأن المخرج السيئ هو ممثل جيد، والمخرج الفاشل هو ممثل أفشل.. والقاعدة هنا أن عاصم مخرج وممثل يمتلك وعيا وحنكة فكان أيقونة هذا العرض. التمثيل من إيجابيات هذا العرض أن المتبقي يجد نفسه أمام كوكبة من الممثلين الذين تميز أداؤهم لا بصدق المشاعر وحدها وإنما بقدرة الاقناع بأن كل واحد ممن جسدوا أدوار هذه المسرحية قد نمت الشخصية التي يلعبها، فكان الاتقان وكان الجو العام الصادق للطرح، وكما قلت عن عاصم رأفت بأنه حصل علي حيازة التميز، أقول عن الدارس والمدرس لفن التمثيل صاحب البصمة البارزة من خلال وعيه بالدور وإجادته له. الفنان علاء قوقة الذي تطمئن علي أن دفعات جديدة من الدارسين علي يديه لفن التمثيل بأكاديمية الفنون سوف يكون لهم شأن كبير إن لم تجرفهم تفاهات مدفوعة الأجر لمحو الشخصية المصرية المقتنعة بحرفة التمثيل، فلقد استطاع علاء قوقة أن يمنح اللحظات التمثيلية كل الصدق، وكل العمق وكل العشق لخشبة المسرح، معه وأمامه تميزت كل من ياسمين ياسر، وكذلك حاولت بسمة شوقي إذ كانت السيمفونية في الأداء شديدة الروعة. ولن أكرر ما يكتبه النقاد أو ما اعتدت أن أكتبه عن أصحاب الاسهامات الفنية في مثل هذه العروض لكن أقول عن معد الموسيقي أحمد حمدي، وعن مهندس الديكور محمد جابر وصاحب الرؤية الإخراجية التي جمعت هذه الكوكبة الجيدة باسم قناوي، وهو اسم غير مطروق وأجدني أشيد بما قدم وأرجو له الاستمرار والازدهار. كلمة لإدارة المسرح هذا عرض جيد كان ينبغي أن تهتم إدارة المسرح بتحريكه إلي خارج قاعة صلاح عبدالصبور لأنه يحمل في أعطافه القدرة علي التنوير والتحليل علي الأقل بالنسبة للحالة التي نحن بصددها من العقوق للأولاد وعدم التمسك لا بالمنطق ولا باحترام الحدود الفاصلة بين الأطراف وجميع عموم الأطياف، وأن مسألة تحريك العروض الجيدة لها فائدة عظيمة في رفع مستوي الأداء المسرحي والارتفاع بخاصية الاختيار. تحية لكل العارضين وأمل ورجاء في أن يكون البيت الفني للمسرح قد آن له أن يقدم عروضا جيدة الصنع مثل الحبل، والقادم إن شاء الله سيكون أجمل.